عندما فاز عمر م. ياغي بجائزة نوبل في الكيمياء عام 2025، لم يكن الحدث مجرد إنجازٍ علمي يستحق الاحتفاء، بل تجاوز ذلك ليعيد إلى الواجهة صراعاً قديمًا متجذرًا حول: من يملك هوية الناجح؟
بين ليلة وضحاها، تحول ياغي، الذي منحته السعودية جنسيتها عام 2021 ضمن مبادرة "المواطنة للمواهب المتميزة"، إلى ساحة تنازع إعلامي بين دول شتى، كل طرف يحاول أن يسحب "بطاقة التعريف" من بين يديه، وكأن النجاح غنيمة يجب تقاسمها، لا إنجازًا إنسانيًا يستحق الاحتفاء.
معادلة الإعلام السهلة!
الصحف الغربية والعربية على حد سواء مارست لعبة قديمة ومكشوفة: عند النجاح، الهوية تُطمس أو تُعدّل أو تُنسب للغرب، وعند الفشل، الهوية الأصلية تُستدعى بسرعة وتُلصق بالفاعل كأنها وصمة عار.
في السعودية مثلًا، عند كل حادث سيء، تتعالى أصوات مأفونة قائلةً: "الفاعل سعودي، نشأ في السعودية، تأثر بثقافتها"، لكن عند كل إنجاز عالمي، نفس الأصوات تعود لتردد: "العالم من جامعة بيركلي"، أو "الباحث من أصل عربي يعمل في أميركا"، أو أي اعتبار آخر يسحب من الشخصية ما لها من انتماء سعودي!
هذا التناقض ليس عفويًا، بل هو ظاهرة إعلامية منهجية؛ فالهوية الوطنية تُستدعى انتقائيًا وفقًا لطبيعة الحدث. عند الفشل أو الانحراف، تتسارع المنصات الإعلامية لربط الفاعل بدولته وثقافته ومجتمعه، لكن الصورة تنقلب تمامًا عند الحديث عن النجاح والإنجاز، حيث تُقصى الهوية المحلية لصالح الانتماء الغربي أو الأكاديمي أو أي شيء آخر.
هذا التناقض ليس محصورًا بقصة ياغي وحده؛ بل هناك نماذج مشابهة عدة، لعل أبرزها العداء البريطاني مو فاراح، المولود في الصومال والمجنس بريطانيًا، فحينما كان يصعد المنصات الأولمبية، كان "فخر بريطانيا" و"ابنها البار"، لكن عندما ظهرت وثائق تشكك في تفاصيل سيرته، بادرت الأوساط الإعلامية بسرعة إلى تذكير الجمهور بأصله الصومالي وحقيقة مولده.
السعودية والحق المشروع
حين تُسمي السعودية "ياغي" سعوديًا، فذلك ليس سرقة هوية، بل استحقاق دولة دعمت وأعطت. وها هنا يجب أن نعيد النظر في المنطق الذي يحكم الاستحقاق الوطني للإنجاز، فالسعودية التي فتحت أبوابها لياغي ووفرت له البيئة البحثية والدعم المؤسسي، ليست مجرد دولة استضافت موهبة، بل دولة استثمرت في كفاءته.
المواطنة في سياق رؤية المملكة 2030 لم تعد مجرد ورقة قانونية تُمنح للمجاملة أو الاستعراض، بل هي أداة تمكين ودعم للكفاءات العالمية.
الدولة التي تستثمر وتدعم وتوفر المختبرات والموارد والبيئة الخصبة للبحث العلمي، لا تسحب الهوية وحسب، بل تبني انتماءً جديدًا قوامه الإنجاز والإسهام المشترك. هذا ليس تجاوزًا على الأصول الأخرى، بل اعتراف بدور الدولة الراعية والمستثمرة، ومن هنا حق لها أن تفخر بما زرعت ورعت وأسهمت فيه.
اختبار التناقض
لعل أفضل مقياس لفهم هذا التناقض الإعلامي هو التفكير بالسيناريو المعاكس: لو أن شابًا عاش فترة قصيرة في السعودية ثم ارتكب فعلًا متطرفًا في الخارج، ألن تُصرّ الصحف حينها على ربط جريمته بسنوات إقامته هنا؟ ألن تصدر عناوين تتحدث عن: "المتطرف الذي نشأ في السعودية"؟ بكل تأكيد نعم.
إذًا المنابر الإعلامية التي ترفع اليوم اسم جامعة بيركلي وتطمس الدور السعودي في رعاية الباحث، هي ذاتها التي كانت ستُلصق الفشل أو الانحراف بالسعودية دون تردد. إنه منطق استحقاق انتقائي يكشف عن أزمة في الخطاب الإعلامي العالمي حول الهوية والانتماء.
صراع الهوية عند العرب
هذا الصراع ليس سعوديًا فقط، بل عربي عام؛ العقل العربي لا يزال منسحقًا تحت وهم الغرب الخارق، ممزقًا بين ماضٍ محلي وجغرافيا غربية لطالما احتضنت نجاحاته. الشتات جعل من الانتماء حالة متشابكة، ومن السؤال "لمن يُنسب النجاح؟" معركة رمزية بين الدول والجماهير.
لكن حين تكون دولة مثل السعودية تمنح، وتستثمر، وتفتح أبوابها للمواهب العالمية، فهي بهذا تبني هوية جديدة قوامها الإنجاز؛ لا الأصل. وهذا حق مشروع، بل علامة تطور سياسي وثقافي.
إن التباهي الحقيقي يجب أن ينبع من العلم والإنجاز، لا من حسابات الجنسيات والأنساب، وفي عالم يتسارع نحو المستقبل، هذا فهم متطور وحكيم لمعنى الانتماء والهوية الوطنية.
خاتمة
فوز "ياغي" فوز لنفسه أولًا؛ ثم فوز للعرب ككل، لكنه أيضًا رسالة من السعودية: "أن دعم الكفاءات وصناعة العلماء أهم من سباق الجنسيات".
في النهاية، ستبقى الجوائز تُمنح للعلماء، والإنجازات تُسجل بأسماء أصحابها، لكن السؤال الذي يجب أن نطرحه ليس "من أين جاء هذا العالم؟"، بل "من دعمه؟ من آمن به؟ من وفر له البيئة ليبدع؟"، وحين نجيب على هذه الأسئلة بصدق، سنعرف أن الاستحقاق ليس سرقة، بل حق مشروع لمن زرع ورعى وأسهم.