اليوم بتنا نرى ونسمع كثيراً من الأسر التي تفككت وانهارت العلاقة الزوجية بين الزوج والزوجة، ويغلب أن يكون الخاسر الأكبر فيها هم الأبناء، وبعضها يكون الضحية أحد الزوجين وأحياناً كل الأطراف؛ الزوج والزوجة والأبناء يكونون ضحية. فما هي الأسباب والمهيجات التي جعلت الأسرة تصل إلى مرحلة التفكك والشقاق؟
الأسباب متعددة وتختلف من حالة إلى أخرى، كما أن الخلاف بين الأزواج وتفكك الأسر ظاهرة قديمة قدم الإنسانية، ولكن في السابق قلة قليلة ما كانت تؤدي هذه الخلافات إلى تفكك الأسرة وانفصال الزوجين وتشرد الأبناء، حيث كان هناك حكمة ومنطق وإصلاح ذات البين يمنع وقوع الفرقة بين الطرفين. بل كان هناك احتواء قبل الوصول إلى هذه المرحلة من جانب الطرفين، الزوج والزوجة، فمهما كان الخلاف بينهما إلا أنهما كانا يغلبان مصلحة الأسرة وإن كان ذلك على حساب أحد الأطراف أو كلاهما، وهذا نتيجة للوعي والحكمة التي كانت تتمتع بها الأجيال السابقة، فنشأ جيل متماسك أُسرياً وقوي البنية الفكرية والنفسية والاجتماعية واستطاع أن ينجب ويُنشئ أجيالاً صالحة.
في وقتنا الراهن، الأسباب التي تهيئ الأجواء للتفكك الأسري كثيرة جداً ومتعددة، ولعل أغلبها يأتي من وسائل التواصل الاجتماعي وما تنقله من رسائل سلبية هادمة للأسرة إما بصورة مباشرة أو غير مباشرة. فعلى سبيل المثال: عندما تظهر (فاشينستا) وتتفاخر من خلال حسابها على أحد مواقع التواصل الاجتماعي كيف كانت تعيش في جحيم الزوجية وكيف أصبحت حرة بعد أن حصلت على الطلاق، وتصور كيف أصبحت تسافر وقت ما تشاء وتلبس ما يحلو لها وتخرج من بيتها في أي وقت مع من تشاء دون قيود ولا ضغوط أسرية تمنعها من ذلك. وأخرى تصور كيف أن وظيفتها هي مصدر أمانها الأول وليس الزوج والأسرة، وتروج لذلك وتوحي للأخريات بأن الأسرة ممثلة بالزوج والأبناء عالة وعبء يحول دون استمتاعها بحياتها وبما تجنيه من مال، وأن بقاءها في إطار الزوجية إنما هو قيد يكتم على أنفاسها، وأن هناك أموراً جميلة في هذه الحياة لم تستمتع بها طالما ما زالت على ذمة رجل يقيد حريتها ويكبح رغباتها في السعادة.
إحدى الممثلات لمع نجمها في أحد المسلسلات وسُلطت عليها الأضواء بشكل كبير جداً، فكانت تروي قصة حياتها وكيف كانت متزوجة وأنجبت ابنة، ولكنها في إطار الزوجية لم تحقق شغفها في الظهور الإعلامي والتمثيل الفني، وتحقق لها ذلك بعد أن انفصلت عن زوجها فحققت الشهرة والأضواء التي كانت تحلم بها وأصبحت محط إعجاب الكثيرين، والإيحاء في ذلك أنها ما كانت لتحقق ذلك إلا بعد أن حصلت على حريتها بعد الطلاق. فكم من فتاة أُعجبت بها وكم من زوجة تمنت أن تُصبح بشهرتها! كل هذه رسائل سلبية تُبث بشكل ممنهج لهدم الأسر وتفككها.
الأمر الآخر أن السواد الأعظم من المُطلقات، وخاصة ممن تبعن مغريات ومحرضات وسائل التواصل الاجتماعي، يسعين لأن تكن جميع صديقاتهن مثلهن منفصلات حتى يتمكن من مصاحبتهن إلى أي مكان في أي وقت دون أي قيود من الزوج والأبناء، انطلاقاً من القول المأثور "الصاحب ساحب فانظر مَن تصاحب"، وقال رسولنا الكريم: "المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل". وهؤلاء يُطلق عليهن هادمات البيوت ومشعلات الفتن الزوجية.
هذه الرسائل السلبية الهادمة التي تنقلها وسائل التواصل الاجتماعي تغزو نفوس جميع النساء دون استثناء وتعشعش في عقولهن، ولكن يأتي هنا دور التربية والتنشئة الحسنة التي نشأت عليها الزوجة، فإن كانت الزوجة كما نقول "بنت حمايل" صاحبة عقل وحكمة ولديها موروث فكري وإيماني قوي وتقدس الحياة الزوجية، فإنها ترفض هذه الأفكار وتحاول مصارعتها وعدم الخضوع والخنوع لها مهما كانت المغريات. وإن كانت الزوجة تربيتها هشة ولا تمتلك من الحكمة ورجاحة العقل ما تميز به بين الواقع والوهم الذي يحاول صناع المحتوى الهابط غرسه في عقول الزوجات، فإنها تنجرف مع هذا التيار وتنصاع لبهرجته الزائفة وهذه الأحلام الجهنمية، فتتخذ خيار تفكيك أسرتها لتنال حريتها الزائفة.
وهنا تبدأ معاناة الأسرة وتبدأ معاناة الزوج والأبناء، وتبدأ رحلة المحاكم، وإن كانت أداة الخلع أسهل ما تلجأ إليه الزوجة لتفتك بمستقبل الأسرة وتمزق روابطها وتشتت شملها دون مبالاة لعواقب ذلك سواء على الأبناء أو على المجتمع ككل.
النتيجة: كثير من الأبناء شُردوا وضاع مستقبلهم، ومنهم من نشأ بعيداً عن أبويه كاليتيم، إما في كنف الجدة أو لدى أحد الأقارب. منهم من تعرض للتنمر فعاش ذليلاً مهاناً يحمل في داخله آلاماً وأحقاداً لا يمكن علاجها، وبعضهم هُتك عرضه بسبب فقدانه للأمن في كنف الأسرة التي من المفترض أن توفر له الأمن والاستقرار والطمأنينة. كم من فتاة تعرضت للاغتصاب وكم من فتاة انحرفت جنسياً وأخلاقياً وتعاطت المخدرات ومارست الرذيلة بأنواعها هروباً من واقعها المؤلم الذي تعيشه بعد تفرق الأسرة.
إحدى الفتيات تقول: زميلي في العمل أخبر والديه بأنه يرغب في خطبتي، وعندما قال لهم بأن أبوي منفصلان رفضا القبول بي كزوجة لابنهم، معللين ذلك بأني سوف أسعى مثل أمي للطلاق بعد الزواج. وكما يقول المثل الشعبي في مصر "البنت تطلع لأمها"، يعني أن البنت غالباً ما تتشابه في صفاتها وتصرفاتها مع أمها، وهذا المثل يعكس فكرة أن البنت تتأثر بوالدتها وتكتسب منها العديد من السمات الشخصية والسلوكية.
ناهيك عن النتائج السلبية الأخرى التي تنعكست على الأزواج؛ فمنهم من دخل في دوامة ديون في محاولة لموازنة حياته الممزقة، ومنهم من أُصيب بأمراض أقعدته طريح الفراش، ومنهم من ترك عمله في محاولة لسد النقص في الفراغ الذي خلفه انفصال الزوجة وتركها للأبناء، وبعضهم ترك عمله نكاية حتى لا تستولي الزوجة على نصفه فلا يبقى له ما يقتات عليه، ناهيك عن الآثار السلبية التي يجنيها المجتمع من تفكك الأسر.
عالم السوشل ميديا، عالم زائف هدم العديد من البيوت وشرد العديد من الأسر وفرق بينهم بأوهام ليس لها وجود، وما زلنا ننجر خلف هذه الحسابات الهادمة دون إدراك لما تتركه في نفوسنا من إيحاءات سلبية تنعكس على تصرفاتنا دون وعي، فتحل الكارثة التي لا يُدرك أثرها السلبي إلا بعد أن تمضي السنين وتبقى الحسرة والندامة. ويا لها من خسارة، فلا ينفع الندم بعدها.