تُظهر العلاقة (الأمريكية–الإسرائيلية) عبر العقود أنها لم تكن يومًا علاقة مساواة بين حليفين بل علاقة ضبط وتذكير متكرر بحدود القوة والفاعلية. فكلما تجاوزت إسرائيل الخطوط التي تراها واشنطن ضامنة لتوازن النظام الإقليمي أو مهددة لمصالح أمريكا بشكل مباشر، برزت لحظات أمريكية فارقة تُعيدها إلى “نطاق الانضباط” ولو مؤقتًا.
من بين أبرز هذه اللحظات التاريخية يبرز تحذير الرئيس جيرالد فورد عام 1975 وتحذير الرئيس دونالد ترامب عام 2025، كرسالتين متشابهتين في الجوهر مختلفتين في السياق لكنهما تشتركان في المعنى الأعمق: أن إسرائيل ليست استثناءً فوق النظام الدولي من منظور المصلحة الأمريكية، وأن دعم أمريكا ليس شيكًا مفتوحًا.
جاء تحذير فورد في أعقاب حرب أكتوبر 1973، حين رفضت إسرائيل الانخراط في مقترح هنري كيسنجر عام 1975 م لفصل القوات في سيناء. كانت واشنطن آنذاك تخشى أن يؤدي التعنت الإسرائيلي إلى انهيار مسار الانفراج الذي بدأ بين مصر والولايات المتحدة. فردّ فورد بإعلان مراجعة شاملة للسياسة الأمريكية في الشرق الأوسط ملوّحًا بتجميد المساعدات لإسرائيل. لم تكن تلك الرسالة مجرد انزعاج سياسي بل كانت صفعة دبلوماسية تذكّر تل أبيب بأنها مهما بلغت قوتها العسكرية تبقى رهينة المظلة الأمريكية، وأن واشنطن وحدها من يملك مفاتيح التسوية أو استمرار الصراع.
وقد أثمر الضغط سريعًا: رضخت إسرائيل لاحقًا ووافقت على اتفاق فك الاشتباك في سيناء عام 1975 وهو الاتفاق الذي مهد الطريق لاحقًا إلى كامب ديفيد، كانت تلك بداية التحول من الغطرسة العسكرية إلى الواقعية السياسية ومن الرهان على السلاح إلى الإقرار بأن أمن إسرائيل لا يتحقق إلا عبر التفاهم مع واشنطن وليس بتحديها.
بعد نصف قرن تقريبًا يعود المشهد في صورة مختلفة ولكن بدلالات أكثر عمقًا فالرئيس الأمريكي دونالد ترامب الذي عُرف بولائه القوي لإسرائيل، قال لنتنياهو بوضوح: "لا يمكنك أن تحارب العالم أجمع" كانت تلك العبارة الموجزة بمثابة إنذار استراتيجي لا سياسي فحسب. فترامب حتى وهو الحليف الأوثق يذكّر نتنياهو بأن مرحلة “الاستثناء الإسرائيلي” قد انتهت، وأن إسرائيل لم تعد تمتلك الغطاء المطلق. فالعالم اليوم يشهد إجماعًا دوليًا غير مسبوق على ضرورة وقف الحرب في غزة والدخول في تسوية، بينما أصبحت إسرائيل في عزلة دولية متصاعدة مع اعتراف أكثر من 80% من دول العالم بفلسطين وازدياد موجة الاعترافات هذه تمت بعد أن حشدت السعودية دول العالم في مؤتمر حل الدولتين من نيويورك.
لم يعد الموقف الأمريكي يهدف إلى حماية إسرائيل من خصومها بل إلى حمايتها من نفسها: من غطرسة القيادة الإسرائيلية التي تُحرج واشنطن أمام العالم وتُضعف موقعها في إدارة التوازنات الدولية. ترامب يقول ضمنيًا لنتنياهو: “أنت لست مركز النظام بل جزء من منظومة تتأثر وتؤثر بها أمريكا. تصرفك كفاعل متمرد يهدد استقرار المشروع الأمريكي بأكمله". إنها لحظة إعادة ضبط توازن القوة ليس فقط بين واشنطن وتل أبيب بل بين "الواقع الإسرائيلي والوهم الإسرائيلي" الذي تغذّى على عقود من الدعم غير المشروط.
فالمقارنة في جوهرها: من مراجعة السياسة إلى مراجعة الوعي سنجد أن تحذير فورد عام 1975 كان مراجعة للسياسة الأمريكية تجاه إسرائيل، أما تحذير ترامب عام 2025 فهو مراجعة للوعي الإسرائيلي نفسه.
الأول: كان في سياق نظام ثنائي القطبية حيث كانت الولايات المتحدة توازن بين مصالحها وموقعها في مواجهة الاتحاد السوفييتي، بينما الثاني: يأتي في عالم بدأ يتشكل وقد وضحت معالمه "متعدد الأقطاب" تتراجع فيه هيمنة الغرب وتتعاظم الضغوط الأخلاقية والدبلوماسية على إسرائيل. في المرة الأولى أرادت أمريكا أن تُعيد إسرائيل إلى طاولة المفاوضات، أما اليوم فهي تريد أن تُعيدها إلى "عقلانية التاريخ" خشية "مكر التاريخ" بعد أن فقدت قدرتها على قراءة اللحظة الدولية الجديدة.
إسرائيل عام 1975 كانت قوة صاعدة تبحث عن اعتراف أمني دائم، أما إسرائيل عام 2025 فهي قوة متخمة تعيش مأزقها البنيوي بين وهم التفوق العسكري وفقدان المشروعية. وبين التحذيرين تمتد خمسون سنة من الدعم الأمريكي الذي بلغ ذروته ثم بدأ يأخذ منعطف في اللحظة الحرجة من بلوغ القوة أقصى مداها واتجهت نحو الانحسار مع تراجع قدرة إسرائيل على تقديم “قيمة استراتيجية مضافة” لمشاريع واشنطن.
الخلاصة: من تأديب السلوك إلى تأديب الفكرة، تحذير فورد كان بداية تأديب السلوك الإسرائيلي، وتحذير ترامب هو بداية تأديب الفكرة الإسرائيلية ذاتها. ففي المرة الأولى أرادت أمريكا أن توقف إسرائيل عن الإفراط في استخدام القوة، وفي الثانية تريد أن توقفها عن الإفراط في أوهام القوة.
إن قول ترامب لنتنياهو “لا يمكنك أن تحارب العالم” عنوان مرحلة جديدة في العلاقة بين واشنطن وتل أبيب حيث لم تعد إسرائيل مركزًا فوقيًّا بل فاعلًا محكومًا بمنطق النظام الدولي الجديد، نظام لم يعد يعترف بقدسية القوة الإسرائيلية ولا بشرعية حربٍ بلا نهاية.
وبين فورد وترامب تكتمل الصورة: من مراجعة السياسة إلى مراجعة الوعي، ومن ضبط السلوك إلى إعادة إسرائيل إلى حجمها الحقيقي في معادلة التاريخ.