: آخر تحديث

من التشظي إلى الواقعية: مسارات الخطاب النسوي

3
3
3

لم يعد الخطاب النسوي مجرّد حركة احتجاجية تطالب برفع الظلم عن المرأة، بل غدا أحد أبرز ميادين الجدل الحقوقي والفكري في العالم. فقد حملت النسوية في بداياتها مطالب عادلة بتوسيع الحقوق المدنية والسياسية والاجتماعية، وساهمت في تفكيك أنماط التمييز التي همّشت النساء طويلًا. غير أنّ توسّعها أدخلها إلى دهاليز السياسة وألاعيبها، فاختُزلت المظلومية في شعاراتٍ مكرّرة، وتحول الخطاب من غايته العادلة إلى أيديولوجيا سياسية تتلاعب بها الأطراف المتصارعة.

يبرز أولًا الطرح النسوي الكوني، الذي يسعى إلى توحيد التجارب النسوية تحت مظلة واحدة، لكنه يواجه توترًا بين الكونية والخصوصية؛ إذ يتجاهل أن العدالة ليست مفهومًا مجرّدًا، بل تجربة متغيرة بتغيّر الزمان والمكان. فالمرأة في الخليج مثلًا لا تواجه ما تواجهه نظيرتها في أميركا اللاتينية أو أوروبا الشرقية، وما يُعَدّ أولوية في مجتمع قد يبدو في آخر ترفًا نظريًا. إنّ إسقاط القوالب الأممية على السياقات المحلية يوسّع الهوة بين النظرية والتجربة، ويجعل الحلول المستوردة عاجزة عن لمس الجذور الحقيقية للمشكلة.

أما الخطاب النسوي التقاطعي، فيزيد المشهد تعقيدًا حين يربط قضايا المرأة بصراعات عرقية أو طبقية أو ثقافية، فتتعدد الهويات وتضعف وحدة الهدف. فالمرأة الميسورة تختلف قضاياها عن محدودة الدخل، والنساء المهاجرات لهنّ هموم لا تشبه نساء المجتمعات المستقرة. بالرغم من وجاهة هذا الوعي بالفروق، فإن المبالغة فيه تذيب القاسم المشترك، وتحول القضية من سعيٍ إلى الإنصاف إلى ساحة تجاذب أيديولوجي، بالرغم أن أبعاد الصراع الطبقي والعرقي ليست حكرًا على النساء، بل هي جزء من بنية اجتماعية أشمل تعاني منها الفئات الضعيفة كافة.

ويتعمق الجدل أكثر مع الخطاب النسوي الراديكالي، الذي يرى أن البنية الاجتماعية ذاتها مصدر التمييز، فيدعو بعض تياراته إلى تفكيك مؤسسات كالزواج والدين أو حتى رفض الإنجاب، باعتبارها أدوات للهيمنة الأبوية. غير أن هذا الطرح يعزل النسوية عن المجتمع بدل أن يمنحها القوة، فيتحول إلى مشروع قطيعة لا يمتلك بدائل واقعية أو مسارًا إصلاحيًا تدريجيًا.

إنّ النقد الجاد لهذا الخطاب لا يهدف إلى نفيه، بل إلى استعادته من أسر الشعارات والتسييس، ومن نزعات الكراهية والانتقام التي تحيد به عن مقاصده الأصلية. فالقضايا العادلة لا تفقد مشروعيتها بالنقد، بل تزداد صلابة حين تُحرَّر من الاستخدام الأيديولوجي، لأن كل خطابٍ حقوقيٍّ يحتاج إلى مراجعة دائمة ليظل وفيًا لجوهر العدالة ومتجذرًا في واقعه.

وبرأيي، فإنَّ البديل الفاعل هو الطرح النسوي الواقعي، الذي ينهض من داخل البيئة المحلية، ويستمد روحه من ثقافة المجتمع دون أن ينغلق عن القيم الإنسانية المشتركة. فالنسوية الواقعية تدافع عن النساء بوصفهن جزءًا من البيئة الاجتماعية لا كهوية معزولة، وتواجه المظالم الفعليّة في التعليم والعمل والصحة والسياسة عبر حلول تنسجم مع مؤسسات المجتمع. ومن خلال هذا النهج المتدرّج يتحقق الإصلاح الحقيقي، إذ تُرسَّخ الحقوق ويُصان التوازن دون أن يُفتح باب للصدام، ذلك الصدام الذي يقود إلى طرق مسدودة، بخلاف الجدل البنّاء الذي يفتح حوارًا يحترم الثقافة المحلية ويدفع سقف المطالب إلى أعلى.

ومن الأمثلة البارزة على الخطاب الواقعي تجربة حركة "Me Too" في الهند، التي انطلقت عام 2018 مستلهمة النسخة العالمية، لكنها تكيفت مع الواقع المحلي المعقد. ركزت الحركة في البداية على فضح التحرش الجنسي في صناعة السينما ببوليوود، ثم امتدت لتشمل قطاعات مثل الإعلام والسياسة، مع إثارة نقاشات حول العنف الجنسي في أوساط الطبقات الوسطى والحضرية. ورغم تحديات الوصول إلى المناطق الريفية والمجتمعات المهمشة بسبب الفوارق الطبقية والثقافية، ساهمت الحركة في تعزيز الوعي العام ودفع إصلاحات قانونية، مثل تطبيق أفضل لقانون منع التحرش في أماكن العمل. هذه التجربة تُظهر كيف يمكن للنسوية، عندما تراعي المحيط الاجتماعي، أن تحقق تغييرًا تدريجيًا دون الانفصال عن النسيج المحلي، محوّلةً الجدل إلى مشروع إصلاحي مشترك.

وهكذا، يستعيد الخطاب النسوي توازنه بعد زمنٍ من التشظي، منغرسًا في التجربة الحيّة التي تصنع التغيير العمليّ والحقيقي، لا في الشعارات التي تغنّي على ليلاها.

 


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.