منذ أكثر من أربعة عقود، وُقِّعت معاهدةُ كامب ديفيد بين مصرَ وإسرائيل عام 1979 لتُنهي حالةَ الحربِ وتفتحَ صفحةً من "السلامِ الباردِ" الذي صمدَ بالرغم من العواصفِ. غير أنّ التطوراتِ الراهنةَ، خصوصًا ما يجري على حدودِ غزةَ وسيناءِ، جعلت هذا السلامَ يدخلُ مرحلةً دقيقةً من التوترِ، تُعيدُ إلى الأذهانِ سؤالًا قديمًا جديدًا: هل ما بُني على المصالحِ الأمنيةِ يمكن أن يصمدَ أمامَ تحوّلاتِ السياسةِ والدماءِ؟
جذورُ المعاهدةِ وحدودُها
جاءت كامب ديفيد في سياقٍ دوليٍّ معقّدٍ عقبَ حربِ تشرين (أكتوبر) 1973، حين قرّرت القاهرةُ أنّ السلامَ الواقعيَّ أجدى من حربِ الاستنزافِ الطويلةِ. فكانت المعاهدةُ نقطةَ تحوّلٍ في بنيةِ النظامِ الإقليميِّ العربيِّ، إذ فتحت أبوابَ التطبيعِ وغيّرت موازينَ القوى. لكنها، في العمقِ، لم تخلق سلامًا اجتماعيًّا أو ثقافيًّا بين الشعبين، بل أبقت العلاقةَ أسيرةَ الحساباتِ الأمنيةِ والوساطاتِ الأميركيةِ.
لم تكن إسرائيلُ تنظر إلى المعاهدةِ إلّا باعتبارها صكًّا يضمن جبهتَها الجنوبيةَ، فيما رأت مصرُ أنّها وسيلةٌ لتحريرِ سيناءِ وتثبيتِ الاستقرارِ الداخليِّ. ومنذ ذلك الحين ظلّ "السلامُ" حذرًا، تحكمه الخطوطُ الحمراءُ والرقابةُ المتبادلةُ أكثر ممّا تحكمه الثقةُ والتبادلُ الإنسانيُّ.
غزةُ.. البوابةُ التي تُعيدُ التوترَ
اليوم، بعد أكثرَ من أربعينَ عامًا على تلك المعاهدةِ، يجد البلدانِ نفسيهما أمامَ اختبارٍ جديدٍ بفعلِ الحربِ في غزةَ. فمع سيطرةِ الجيشِ الإسرائيليِّ جزئيًّا على الجانبِ الفلسطينيِّ من معبرِ رفح، ارتفعت نبرةُ الغضبِ في القاهرةِ، التي اعتبرت الخطوةَ خرقًا لاتفاقياتٍ قائمةٍ منذ عقودٍ. مصرُ، التي طالما لعبت دورَ الوسيطِ بين إسرائيلَ والفصائلِ الفلسطينيةِ، وجدت نفسَها هذه المرّةَ في موقعِ المتضرّرِ المباشرِ من توسّعِ العملياتِ العسكريةِ على حدودِها.
رفحُ لم تعد معبرًا إنسانيًّا فقط، بل أصبحت رمزًا لكرامةِ الدولةِ وحدودِ سيادتِها. فكلّ خطوةٍ إسرائيليةٍ في تلك المنطقةِ تُقرأ مصريًّا كاستفزازٍ وتجاوزٍ للاتفاقاتِ الأمنيةِ. وقد أعلنت القاهرةُ مرارًا أنّ أيَّ نزوحٍ جماعيٍّ للفلسطينيين نحو سيناءَ هو "خطٌّ أحمرُ" لا يمكن السماحُ بتجاوزه تحت أيِّ ذريعةٍ.
الأمنُ القوميُّ المصريُّ تحتَ المجهرِ
لا تنطلق المواقفُ المصريةُ من العاطفةِ بقدرِ ما تنبعُ من حساباتٍ دقيقةٍ للأمنِ القوميِّ. فسيناءُ التي عانت من الإرهابِ والتهريبِ، باتت منطقةً حسّاسةً تحتاج إلى استقرارٍ تامٍّ. لذلك عزّزت مصرُ وجودَها العسكريَّ هناك، ضمن حدودِ التفاهماتِ المعروفةِ، لكنها في الوقتِ نفسه وجّهت رسالةً واضحةً: إنّ الحفاظَ على السلامِ لا يعني التفريطَ بالأمنِ.
إسرائيلُ، من جانبِها، ترى أنّ التحركاتِ المصريةَ الواسعةَ في سيناءِ تجاوزت ما تنصُّ عليه بنودُ المعاهدةِ، التي تحدّد بدقّةٍ حجمَ وانتشارَ القواتِ في كلِّ منطقةٍ. غير أنّ القاهرةَ تعتبر أنّ الظروفَ الإقليميةَ استثنائيةٌ، وأنّ من حقِّها تأمينُ حدودِها أمامَ احتمالاتِ الانفجارِ والفوضى.
سلامٌ بلا ثقةٍ
ما يجري اليومَ يؤكّد أنّ كامب ديفيد أسّست لسلامٍ شكليٍّ أكثرَ منه جوهريًّا. فالتبادلُ الدبلوماسيُّ محدودٌ، والتعاونُ الاقتصاديُّ بطيءٌ، والمزاجُ الشعبيُّ في مصرَ لم يتقبّل التطبيعَ بالرغم من مرورِ العقودِ. بل إنّ الحربَ على غزةَ أعادت تعبئةَ الرأيِ العامِّ المصريِّ ضدّ إسرائيلَ، وأحرجت الحكومةَ التي تجدُ نفسَها بينَ التزاماتِ المعاهدةِ وضغوطِ الشارعِ العربيِّ.
أضف إلى ذلك أنّ القاهرةَ لم تُعيّن منذُ أشهرٍ سفيرًا جديدًا في تل أبيب، في إشارةٍ رمزيةٍ إلى استيائها من السلوكِ الإسرائيليِّ، خصوصًا مع اتّساعِ العملياتِ في رفحَ وتهديدِ المدنيين. هذا الجمودُ الدبلوماسيُّ يُترجم فتورًا سياسيًّا قد يتحوّل إلى أزمةِ ثقةٍ دائمةٍ إذا استمرَّ الوضعُ الراهنُ.
الدورُ المصريُّ بينَ الوساطةِ والرّفضِ
منذ اندلاعِ حربِ غزةَ الأخيرةِ، تحاولُ مصرُ الحفاظَ على موقعِها كوسيطٍ أساسيٍّ بينَ إسرائيلَ وحماس، لكنها تواجهُ صعوبةً غيرَ مسبوقةٍ. فإسرائيلُ لم تَعُد تستجيبُ بسهولةٍ للوساطاتِ، بينما تتّهمُها بعضُ الأطرافِ بمحاولةِ فرضِ أمرٍ واقعٍ على الحدودِ. ومع ذلك، تواصلُ القاهرةُ جهودَها لتثبيتِ هدنةٍ إنسانيةٍ وتسهيلِ دخولِ المساعداتِ، إدراكًا منها أنّ استقرارَ غزةَ هو شرطٌ لاستقرارِ سيناءِ.
لكن الوساطةَ المصريةَ اليومَ تتمُّ في مناخٍ إقليميٍّ متوتّرٍ، حيث تتراجعُ الثقةُ بينَ الأطرافِ، ويزدادُ الاستقطابُ بينَ معسكراتٍ عربيةٍ ترى في إسرائيلَ خطرًا دائمًا، وأخرى تعتبرُ التطبيعَ سبيلًا للنفوذِ. في هذا السياقِ، تبدو القاهرةُ متمسّكةً بتوازنٍ دقيقٍ بينَ الواقعيةِ السياسيةِ والالتزامِ القوميِّ.
إلى أينَ يتجهُ السلامُ؟
بالرغم من أنّ أحدًا لا يتحدّثُ رسميًّا عن إلغاءِ معاهدةِ كامب ديفيد، إلّا أنّ التوتراتِ الحاليةَ تضعُها أمامَ اختبارٍ حقيقيٍّ. فالمعاهدةُ صمدت أمامَ حروبٍ وانتفاضاتٍ سابقةٍ، لكنها تواجهُ اليومَ تحدّيًا مختلفًا: تحدّي الثقةِ. فإذا شعرت مصرُ أنّ إسرائيلَ تتصرّفُ خارجَ حدودِ التفاهمِ، فقد تتّجهُ نحوَ إعادةِ النظرِ في بعضِ البنودِ الأمنيةِ، ولو بشكلٍ غيرِ معلنٍ.
ومع ذلك، لا يمكنُ لمصرَ أن تخوضَ مواجهةً مباشرةً، لأنّ كلفةَ الحربِ في زمنِ الأزماتِ الاقتصاديةِ والسياسيةِ عاليةٌ جدًّا. لذا يبقى الخيارُ الأقربُ هو "التصعيدُ الدبلوماسيُّ المدروسُ" والتمسّكُ بالموقفِ الوطنيِّ دونَ كسرِ التوازنِ.
سلامٌ يحتاجُ إلى روحٍ
كامب ديفيد لم تكن مجرّدَ وثيقةٍ، بل تجربةً في تحويلِ العداءِ إلى تسويةٍ. غير أنّ ما يجري اليومَ يذكّرُ بأنّ السلامَ لا يُصانُ بالنصوصِ فقط، بل بالنيةِ السياسيةِ والاحترامِ المتبادلِ. فإذا أرادت إسرائيلُ أن تُبقي معاهدتَها مع مصرَ قائمةً، فعليها أن تُدركَ أنّ أمنَ مصرَ ليس ورقةَ تفاوضٍ، وأنّ حدودَ رفحَ ليست هامشًا في معركةٍ، بل جدارَ السيادةِ الذي يحمي آخرَ ما تبقّى من توازنِ الشرقِ الأوسطِ.
ولعلَّ السلامَ الحقيقيَّ يبدأ حينَ تعودَ الثقةُ إلى لغةِ الجوارِ قبلَ أن تُكتَبَ على ورقِ المعاهداتِ.