يُمثّل تحديد اليوم الوطني لأي دولة ممارسة رمزية ذات أبعاد سياسية وثقافية عميقة. فالدولة لا تختار تاريخًا للاحتفال إلا بقدر ما ترى فيه تجسيدًا لمعنى الاستقلال والسيادة والانتماء الوطني. في الحالة العراقية، جاء اعتماد 3 تشرين الأول (أكتوبر) – تاريخ دخول العراق عضوًا في عصبة الأمم سنة 1932 – عيدًا وطنيًا، ليزيح 14 تموز (يوليو) 1958، وهو اليوم الذي أُطيح فيه بالنظام الملكي وأُعلنت الجمهورية. هذا الانتقال من تاريخ ثوري عارم إلى تاريخ قانوني "هادئ" أثار جدلًا واسعًا في الأوساط العراقية، بين من يرى فيه استعادة لـ "لحظة التأسيس الدولية"، ومن يعدّه تزييفًا للذاكرة الوطنية وإقصاءً للحظة التحرر الفعلي من الهيمنة البريطانية. من منظور تقليدي، يمكن قراءة هذا الجدل في إطار الصراع بين سرديتين: "استقلال قانوني" (1932) و**"استقلال ثوري" (1958)**.
لكن باستخدام منهج سلافوي جيجك (Žižek)، الذي يُركز على البنية الأيديولوجية الكامنة وراء الخطاب السياسي والرموز الجماعية، يمكن أن نفهم هذا القرار كإعادة إنتاج لهيمنة معينة، عبر اختيار رمزي يكشف أكثر مما يخفي. فالأيديولوجيا، وفق جيجك، ليست مجرد قناع للحقيقة، بل طريقة في عيشها عبر الوهم. من هنا، يصبح اليوم الوطني العراقي مثالًا بارزًا على كيفية عمل الأيديولوجيا في صياغة الهوية الوطنية الحديثة.
الإطار التاريخي – بين استقلالين
قبل الدخول في منهجية سلافوي جيجك، لا بد من تبيان الخلفية التاريخية:
تشرين الأول (أكتوبر) 1932: قُبول العراق في عصبة الأمم اعتُبر إعلانًا رسميًا باستقلاله بعد 12 عامًا من الانتداب البريطاني. لكنه استقلال مشروط باتفاقيات عسكرية واقتصادية مع بريطانيا، ما جعل بعض المؤرخين يصفونه بـ "الاستقلال الناقص".
14 تموز (يوليو) 1958: الثورة التي أنهت النظام الملكي المدعوم بريطانيًا، وألغت المعاهدات، وأعلنت الجمهورية. هذه اللحظة قُرئت في الوعي الجمعي كتحرر فعلي من السيطرة الإمبريالية، لكنها ارتبطت أيضًا بالعنف السياسي والفوضى.
بالتالي، نحن أمام تاريخين يمثلان نموذجين متناقضين؛ استقلال قانوني دولي مقابل استقلال ثوري داخلي. يطرح جيجك أن الأيديولوجيا ليست ببساطة "كذب السلطة" أو "تزييف الوعي"، بل هي بنية رمزية يعيش الأفراد داخلها واقعهم الاجتماعي. إنها "الوعي الكاذب" الذي نعرف أنه كاذب ومع ذلك نتبناه، وهو ما يسميه بـ الإنكار الفيتيشي (fetishistic disavowal): "أنا أعلم أن الاستقلال لم يكن كاملًا، لكنني أتصرف وكأنه كذلك". كما يميز جيجك بين:
- المستوى الرمزي (Symbolic): القوانين، المؤسسات، الخطاب الرسمي.
- المستوى المتخيل (Imaginary): صورة الذات الوطنية، الانتماء الجماعي.
- المستوى الواقعي (the Real): ما لا يمكن استيعابه في البنية الرمزية، مثل العنف المؤسِّس أو الانفجار الثوري.
هذا الإطار يسمح لنا بقراءة اليوم الوطني العراقي بوصفه ممارسة أيديولوجية تكشف العلاقة بين الرمز والواقع في سردية الاستقلال.
الثالث من تشرين الأول (أكتوبر) كـ"وهم قانوني"
الخطاب الرسمي يُقدم 3 تشرين الأول (أكتوبر) على أنه لحظة "ميلاد الدولة العراقية المستقلة". لكن من منظور جيجك، هذا ليس سوى قناع أيديولوجي؛ هو يختزل الاستقلال في لحظة اعتراف دولي، متجاهلًا استمرار التبعية الاقتصادية والعسكرية لبريطانيا. ويعمل على تقديم الاستقلال كمنجز "هادئ" و"متحضر"، بدلًا من أن يكون نتاج صراع شعبي. ويسعى نحو ربط العراق منذ البداية بالنظام الدولي، كأنه لا يستطيع الوجود خارج "عين الآخر الكبير" (the big Other)، أي المجتمع الدولي الذي يمنحه الشرعية. بهذا المعنى، 3 تشرين الأول (أكتوبر) يعبّر عن تبعية رمزية أكثر منه استقلالًا فعليًا.
بالنسبة إلى 14 تموز (يوليو) كـ "الواقعي" المستبعَد. بالنسبة إلى جيجك، كل نظام رمزي يحتاج إلى استبعاد "واقعي" مُزعج لا يستطيع احتواءه. في الحالة العراقية، يُمثّل 14 تموز (يوليو) ذلك الواقعي؛ إنه لحظة انفجار دموي وقطيعة عنيفة مع الماضي. وهو يكشف أن الاستقلال الحقيقي لا يأتي بالاعتراف القانوني، بل بالعنف الثوري. لكنه أيضًا يذكّر بالفوضى والانقسامات التي أعقبت الثورة. لذلك، في الذاكرة الرسمية ما بعد 2003، جرى استبعاد هذا اليوم، لأنه لا يمكن تمثيله ضمن خطاب "الدولة الحديثة المتحضرة". إنه يمثل اللاوعي المكبوت للهوية العراقية؛ الجميع يعرف أنه كان لحظة التحرر الفعلي، لكن الخطاب الرسمي لا يستطيع الاعتراف به.
الحاضر يفسّر الماضي
جيجك يُصرّ دائمًا على أن الماضي يُعاد تفسيره بناءً على احتياجات الحاضر. بعد 2003، العراق أُعيد تشكيله تحت الاحتلال الأميركي ثم تحت سلطة دولية مراقِبة. ومن هنا، كان من الضروري إعادة صياغة الرموز الوطنية بما يتماشى مع هذه البنية:
- اختيار 3 تشرين الأول (أكتوبر) يؤكد ارتباط العراق بالنظام الدولي (عصبة الأمم بالأمس، الأمم المتحدة اليوم).
- أما استبعاد 14 تموز (يوليو) فيجنّب الدولة استحضار خطاب ثوري مناهض للإمبريالية قد يتعارض مع موقعها الحالي.
النتيجة: اليوم الوطني الجديد هو إعادة إنتاج تبعية ماضية في شكل هوية جديدة.
اليوم الوطني كأداة أيديولوجية
في ضوء منظور جيجك، يمكن تلخيص وظيفة اليوم الوطني العراقي كما يلي:
إعادة إنتاج الوهم: العراقيون يعرفون أن استقلال 1932 كان ناقصًا، لكنهم يحتفلون به كأنه استقلال كامل.
إقصاء الواقعي: الثورة (1958) تُستبعد لأنها تكشف عن العنف المؤسِّس الذي لا تريد الدولة الاعتراف به.
إعادة تشكيل الذاكرة: الهوية الوطنية تُعاد كتابتها بحيث تبدأ بالشرعية الدولية لا بالتحرر الثوري.
إعادة ترتيب العلاقة مع الآخر: العراق لا يُعرّف نفسه عبر قطيعة مع الغرب، بل عبر اعتراف الغرب به.
هكذا يصبح اليوم الوطني أداة لإنتاج سردية وطنية "مناسبة" للحاضر السياسي.
مقاربة مقارنة
يمكن مقارنة الحالة العراقية مع حالات أخرى قرأها جيجك أو يمكن تفسيرها بمنهجه. في يوغسلافيا السابقة، لاحظ جيجك كيف أعادت كل جمهورية كتابة تاريخها الوطني بعد التفكك، بحيث تُمجّد لحظة معينة وتستبعد أخرى. في جنوب أفريقيا، اختير يوم الانتخابات الديمقراطية (1994) كيوم وطني بدلًا من لحظة الكفاح المسلح، لتقديم صورة "تصالحية" أمام العالم. في العراق، الآلية ذاتها: استبعاد العنف الثوري (1958) لصالح لحظة قانونية معترف بها دوليًا (1932).
من منظور جيجك، لا يكشف اختيار اليوم الوطني العراقي في 3 تشرين الأول (أكتوبر) سوى عن الطريقة التي تعمل بها الأيديولوجيا: عبر تحويل استقلال ناقص إلى رمز كامل، وإقصاء لحظة التحرر الحقيقي بوصفها "واقعية" أكثر مما تحتمل الهوية الرسمية. إن هذا القرار ليس مجرد اختيار تقويمي، بل ممارسة أيديولوجية تسعى إلى إعادة صياغة الذاكرة الوطنية، بما يتناسب مع موقع العراق الحالي في النظام الدولي. إن استبعاد 14 تموز (يوليو) لا يعني نسيانه، بل يُرسّخه كـ "لاوعي مكبوت"، سيظل يطلّ كلما طُرح سؤال الاستقلال والسيادة. بهذا المعنى، يمكن القول إن العراق يعيش في إنكار فيتيشي دائم: يعرف أن استقلاله الأول كان ناقصًا، لكنه يتصرف كما لو كان كاملًا، لأن هذا الوهم وحده يسمح باستمرار الهوية الوطنية. ومن هنا، يصبح اليوم الوطني العراقي مرآة صافية لكيفية عمل الأيديولوجيا، وفق منهجية جيجك، كقوة تنظم علاقتنا بالحقيقة لا عبر كشفها بل عبر حجبها.