في خضم الضباب الكثيف الذي يلف المشهد الفلسطيني، تتجلى حقيقة واحدة لا لبس فيها: أن الصراع لا يقتصر على حدود غزة المُدمَّرة، بل يمتد بدموية وقسوة إلى شرايين الضفة الغربية. فبينما تتوالى جولات المفاوضات لإنهاء الحرب في العواصم الإقليمية، تستمر آلة الاحتلال في هندسة واقع جديد على الأرض، مستغلة الكارثة في القطاع كغطاء مثالي لتعميق السيطرة الاستيطانية والتحركات العسكرية في الضفة.
إن التقديرات المتداولة بين المحللين السياسيين والأمنيين، التي تشير إلى أن قوات الاحتلال ستكثف جهودها العسكرية في الضفة الغربية خلال الفترة المقبلة، وخاصةً مع اقتراب ذكرى السابع من أكتوبر، لا تنبئ بزيادة في الإجراءات الأمنية فحسب، بل تحمل في طياتها نية مبيّتة لتغيير ديمغرافي وجغرافي دائم. الخشية العميقة التي تسود المشهد الفلسطيني اليوم هي أن تشهد هذه الفترة تحركات فعلية وواسعة للسيطرة على الأراضي، قد يصبح بعضها دائمًا أو طويل الأمد. هذا المسعى التوسعي، الذي يترافق مع تصعيد غير مسبوق في حملات الاعتقال اليومية، وزيادة في عنف المستوطنين المدعومين رسمياً، يهدف إلى تقويض أي أساس سياسي قابل للحياة لدولة فلسطينية مستقلة، ويزرع بذور جولة جديدة من المقاومة المسلحة، ليثبت أن الاحتلال هو جذر المأساة الذي لا يُمكن الالتفاف عليه أو "إدارته" بخطط سلام جزئية.
منذ تشرين الأول (أكتوبر) 2023، تحولت الضفة إلى ساحة مواجهة مفتوحة. أكثر من ألف فلسطيني استشهدوا على يد قوات الاحتلال، وفقاً لإحصاءات رسمية، فيما شهد عام 2025 وحده مقتل 70 شخصاً خلال شهر واحد، في تصعيد يفوق أشد فترات الانتفاضة الثانية عنفاً. هذه الأرقام ليست مجرد إحصائيات، بل قصص عائلات ممزقة، قرى مدمرة، وشباب يُقتلون بدم بارد تحت ذريعة "الأمن". العمليات العسكرية الإسرائيلية، مثل تلك التي شهدتها جنين وطولكرم في يناير الماضي، أدت إلى تدمير أحياء سكنية وتهجير آلاف الفلسطينيين، في محاولة لكسر إرادة المقاومة. لكن هذه العمليات ليست مجرد رد فعل؛ إنها جزء من استراتيجية ممنهجة لتغيير الواقع الديموغرافي والجغرافي في الضفة. التوسع الاستيطاني، الذي أقر بناء آلاف الوحدات الجديدة في 2025، يقطع أوصال المدن الفلسطينية، محولاً إياها إلى جزر معزولة تحيط بها نقاط التفتيش والجدران العنصرية.
ولا يكتفي الاحتلال بالعنف المباشر فحسب، بل يعتمد في جوهره على كونه نظاماً استعمارياً يسخّر القمع للحفاظ على هيمنته، وذلك عبر سياسات اقتصادية وإدارية ممنهجة لخنق الفلسطينيين. فالحصار الاقتصادي، الذي يمنع وصول الأموال للسلطة الفلسطينية، يفاقم البطالة والفقر، ويدفع الشباب نحو المواجهة كخيار أخير للنجاة من العوز والإذلال. هذه الإجراءات، التي تشمل هدم المنازل ومصادرة الأراضي، ليست مجرد تدابير إدارية، بل هي جرائم حرب موثقة تهدف إلى تكريس الفصل العنصري. هذه السياسات، القديمة في المضمون، تكتسب زخماً أكبر مع اقتراب الذكرى، حيث يخشى المراقبون من أن تتحول العمليات العسكرية إلى احتلال دائم لبعض المناطق، خاصة في شمال الضفة، في نهج يذكّر بـ النكبة كونه يمهد لـ "ضم تدريجي" مشروع وقاسٍ. فبينما يرى نتنياهو، الذي يواجه أزمات داخلية، في التصعيد العسكري مخرجاً سياسياً، فإنه يتجاهل أن هذا النهج الاستعماري هو الوقود الذي يغذي المقاومة.
في النهاية، الضفة الغربية ليست مجرد أرض، بل هي قلب القضية الفلسطينية. أي محاولة للسيطرة الدائمة عليها ستُشعل فتيل مقاومة أوسع، قد تمتد إلى المنطقة بأكملها. مقترح ترامب، رغم نواياه المعلنة، لن ينجح ما لم يُلزم الاحتلال بالانسحاب وإنهاء الاستيطان. المجتمع الدولي، مدعو اليوم لفرض عقوبات حقيقية ودعم حق الفلسطينيين في دولة مستقلة. إن الضفة لن تكون بوابة للهزيمة، بل مسرحاً لصمود شعب يرفض أن يُمحى من التاريخ. الذكرى القادمة ليست مجرد مناسبة للحداد، بل دعوة لتجديد النضال نحو الحرية.