: آخر تحديث

"الكَعْرُوب" غنيمة الفقراء بعد الحصاد

3
3
3

يشكّل موسم كسر القصب في صعيد مصر حدثًا اجتماعيًا مهمًا لا يزال يحتفظ ببعض طقوسه القديمة، بالرغم من تغير الزمن، إذ لا يعني فقط كسر الأعواد بل بداية حصاد المحصول بأكمله. هذه الأعواد التي تُستخرج منها مادة السكر، وتُستهلك في المدن كعصير لذيذ، تخفي خلفها مشقات ومعاناة طويلة، لكنها بالنسبة إلى أبناء الصعيد تُعد ثمرة تعبهم وشقائهم.

ويعتبر المزارعون القصب فاكهة الأرض بعد شهور من الكدّ، بالرغم من أن عائد بيعه لشركة السكر لا يغطي الحد الأدنى من احتياجات الحياة. وتزرع محافظات الصعيد نحو 300 ألف فدان قصب، منها 105 آلاف فدان في قنا، و80 ألفًا في الأقصر، و65 ألفًا في أسوان، و70 ألفًا بين سوهاج والمنيا.

ويبدأ موسم كسر القصب في كانون الثاني (يناير)، حين تعلن شركة السكر افتتاح الموسم، حيث يُدار العمل بدقة وتنظيم يشبه العمليات العسكرية، لتفادي الخلافات وتمكين الشركة من استيعاب المحصول تدريجيًا. كان هذا الموسم مناسبة للفرح في القرى، إذ يوفر فرص عمل موسمية ويجمع شمل الأسر بعد غياب طويل لأبنائها العاملين في المدن، ليستقروا بينهم لثلاثة أشهر على الأقل.

تبدأ العملية بتشكيل فرق "الرغابة" الذين يباشرون عملهم قبل شروق الشمس، بقيادة صاحب الحقل الذي يحدد المساحة المطلوب حصادها. يستخدم العمال "القدوم" وهو أداة تشبه الفأس الصغيرة لقطع القصب، ثم يفصلون الأوراق عن الأعواد، ويكوّمونها في حزم منتظمة. بعدها يتولى "الجمّالة" تحميل "بِشَل القصب" على ظهور الجمال بعناية، لتجنب ميل الأحمال، ثم تنقل الجمال القصب إلى عربات السكك الحديدية المخصصة لشركة السكر المنتشرة بين الحقول.

يتولى "الشحّانة" رفع الحزم ورصّها في العربات استعدادًا لنقلها إلى المصانع. وبعد تفريغ الحقل، يبدأ المزارع في حرق بقايا الأوراق الجافة (العفش) في منتصف الحقل لتنظيفه، بحذر حتى لا تمتد النار إلى الحقول المجاورة.

وحين ينتهي موسم الحصاد، يتوافد النساء والأطفال إلى الحقول لجمع ما يُعرف بـ"الكَعْرُوب"، أي جذور القصب اليابسة المتبقية، لاستخدامها كوقود للتدفئة أو للطهي على "الكوانين". وكان "الكعروب" في الماضي مصدرًا رئيسيًا للطاقة في البيوت، تجتمع حوله الأسر في ليالي الشتاء للسمر وسرد الحكايات، قبل أن يتراجع دوره مع انتشار الغاز والبوتاغاز والدفايات الحديثة. ومع ذلك، لا يزال بعض الفلاحين يجمعونه حتى اليوم، في حنين دافئ لأيام البساطة التي رحلت دون عودة.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.