: آخر تحديث

الدولة اللبنانية تَسير ضد الطبيعة.. وتُعارض مصلحتها

2
2
2

لا تكمن مشكلة لبنان في نقص النصوص، ولا في غموض العناوين. إن "حصرية السلاح بيد الدولة" هي مبدأٌ نصّت عليه الدساتير والعهود والقرارات الدولية، وردّدته السلطات المتعاقبة كتعويذة أخلاقية. لكن ما شهدناه في الجلسات الحكومية الأخيرة، وما انبثق عن الأداء السياسي والأمني المُحاذي، لم يكن سوى اجترارٍ للعبارات نفسها مع إفراغها من مضمونها. إن الدولة التي يُفترض أن تستعيد وحدانية القوة، تكتفي اليوم بتصريف الأعمال الخطابية، وتستسلم لمعادلة "البيضة والدجاجة": الجيش لا ينزع سلاح حزب الله ما دام الإسرائيلي يقصف، والقصف يستمر ما دامت الدولة تتمنع عن فرض حصرية السلاح. وبالتالي، ندخل حلقة مفرغة، لا تعكس عجزاً تقنياً بل إرادةً سياسيةً تُبرر العجز وتُطيل أمده.

من البديهي التصريح بأن الجيش اللبناني لا يستطيع أن يخوض حرب شوارع لنزع السلاح بالقوّة، كما ولا يُطلب منه ذلك، وهذا تحصيل حاصل. لكنّ غير البديهي، بل وغير المقبول، أن يتحوّل هذا الواقع إلى ذريعةٍ لتمديد الأمر الواقع. لا تتمحور وظيفة الريادة السياسية حول تعداد الموانع، بل هي وضع وتحديد المسار المُمكن: صياغة قرار واضح بتطبيق الدستور، اعداد خريطة طريق تحدّد الأدوار والمسؤوليات، وطلب دعم دولي وعربي مُحكَم لتنفيذ قرارات مجلس الأمن ذات الصلة، وفي مقدّمها القرارين رقم 1559 و1701، ضمن آليات متدرّجة تَجمع بين الضغط السياسي والاقتصادي وبين إعادة تموضع أمني يُعيد للدولة اعتبارها.

ما حصل في "قضية الروشة" نموذجٌ فاقع لهذا الانقلاب في الأولويات. سِتة مصابيح على صخرةٍ تحوّلت إلى معركة سيادية مزعومة، وازدهر حولها "فقهاء" التأويل الإداري والقانوني لتبرير هذا التجاوز، فيما جوهر القضية يكمن في تحدّي قرار الحكومة وامتحان هيبة الدولة في قلب العاصمة. الأسوأ أنّ بعض الأوساط الرسمية تعاطت مع الحادثة كمجرّد "إشكالٍ عرضي"، في حين أنّ معناها سياسيّ بامتياز: إن نجح اختبارُ الرمزية في بيروت، فما الذي يمنع تمديد الاختبار إلى ساحاتٍ أُخرى أشدّ حساسية؟ ومثلها قرار تعليق رخصة جمعية "رسالات" (الجمعية اللبنانية للفنون) الذي قد يُفهم، إذا أُدير بمنطق المقايضة، كفاتورةٍ شكلية لدغدغة الرأي العام، بدل أن يكون خطوة في إطار منظومةٍ كاملة تعالج البيئة المؤسسية والثقافية التي تؤمّن الغطاء لاقتصاد القوة خارج الدولة.

ليس نقصُ الشجاعة وحده ما يطفو هنا، بل مفارقةٌ أخطر: السلطة تسير عكس الطبيعة، فالطبيعة السياسية في الإقليم تتغيّر سريعاً؛ والعواصم العربية الكبرى تُعيد ترتيب أولوياتها على قاعدة التنمية والاستقرار والانخراط في الاقتصاد العالمي. حتى دمشق، المثخنة بجراحها، تُلامس واقعيةً اضطرارية في مقاربة ملفاتها. أمّا نحن فنسير بعكس التيار: نضيّق على الحريات الإعلامية عند أول امتحان، نُحجِّم القضاء عند أول ملفٍ شائك، ونُطبع مع الاستثناء الأمني في قلب العاصمة بينما نرفع شعار "الدولة القوية". لقد فَقد منطق "التحالفات الوقائية للأقليات" الذي راهن عليه حزب الله تاريخياً، صلاحيتَه الإقليمية؛ ولم يعد أحدٌ مستعداً لتغطية مغامراته. ورغم ذلك، تُصرّ السلطة على تزويده بأوكسيجين سياسيّ عبر صياغة عبارات لفظية وتفسيراتٍ ظرفية تُبقي السلاح شرعياً بحجّة "الخطر الخارجي".

والحال أنّ حزب الله نفسه يمرّ بأزمةٍ بنيوية. إذ إن الضربات المتتالية التي تلقّاها في الجنوب والشرق كشفت هشاشة هيكليته العسكرية في مواجهة السلاح الإسرائيلي، وأربكت خطوطه اللوجستية والقيادية. لا حاجة للتهويل هنا؛ يكفي النظر إلى الفجوة بين خطاب "القدرة على قلب الموازين" وبين الواقع الميدانيّ الذي يفرض عليه امتصاص الضربات والاكتفاء بردودٍ محسوبة. هذه ليست "حكمة" مُستجدّة، بل نتيجة تآكلٍ تراكميّ في القدرة على تحمّل كلفة المواجهة المفتوحة، وتفلّت الرأسمال الشعبي من وهم "انتصاراتٍ" لا تُترجم إلا خراباً وعرقلةً للاقتصاد.

في هذا السياق، يصبح رهانُ الدولة على الوقت تواطؤاً. فالوقت يعمل ضدّ لبنان: كل يومٍ إضافيّ بلا مسارٍ واضح نحو توحيد السلاح هو خصمٌ من صورة البلد ووزنه وموقعه في فضائه العربي؛ والمزيد من التردّد يُعطي إسرائيل حُجةً أوفر لتوسيع بنك أهدافها بذريعة العجز اللبناني، ويفتح الباب أمام نظام عقوباتٍ وعزلةٍ تدريجية لا تُصيب "الحزب" وحده بل تطال المجتمع والاقتصاد والدولة بأكملها. والأخطر من ذلك أنّ رسائل الارتباك التي تصدر عن الرئاسة الأولى وقيادة الجيش، حين تُصاغ على هيئة تقارير "تقنية" تُعلِّق القرار على وقائع ميدانية، تُتَرجم خارجياً كقبولٍ ضمنيّ باستدامة الاستثناء. وبهذا المعنى، لا يعود عجزُ الدولة خطأً في الإدارة، بل سياسةً بالفعل.

ماذا نفعل إذاً؟ البداية ليست عسكرية، بل سياسية ـ قانونية ـ إدارية. أولاً، الإعلان الرسميّ والصريح بأنّ حصرية السلاح ليست لافتة بل التزامٌ مُلزِم للدولة ومؤسساتها، مع وضع سقفٍ زمنيّ معلَن لخريطة الطريق. ثانياً، تحويل القرارات والمراسيم إلى أدوات تنفيذ: ضبط المظاهر المسلّحة في المدن، مَنع العراضات، وملاحقة الاقتصاد الموازي الذي يغذّي السلاح، وتفعيل القضاء في الجرائم المتّصلة بتنظيم السلاح خارج الشرعية. ثالثاً، إعادة تعريف دور الجيش كضامنٍ لمنع العنف السياسي في الشأن العام، وتحصينه سياسياً عبر رعايةٍ عربيةٍ ودولية تُخرجه من لعبة "الوساطة" إلى وظيفة فرض القانون وفق ما يتيحه القرار رقم 1701 عبر آليات التنسيق القائمة. رابعاً، وضع برنامجٍ اقتصادي ـ اجتماعي يربط بوضوح بين استعادة الدولة لقرارها الأمني وبين مسارات التعافي: لا استثمار ولا إعادة إعمار بلا دولةٍ واحدة وسلاحٍ واحد.

سيقول قائلٌ إنّ ذلك كلّه مثاليّ في ظلّ توازنات الداخل. الحقيقة أنّ "توازنات الداخل" تغيّرت، وإن لم تُعلَن بعد. إن بيئةُ "الحزب" الاجتماعية مثقلةٌ بالتعب، والشارع الشيعي ليس كتلةً صمّاء. أما الغطاء الإقليمي الذي طالما وُظِّف لفرملة الدولة فها هو يتبدّد على وقع حساباتٍ جديدة لدى العواصم المؤثّرة؛ ناهيك عن أن المجتمع اللبناني الأوسع قد خرج من طور الإنكار: لم يعُد مستعدّاً ليكون رهينة صراعاتٍ بالوكالة ولا منصّة لرسائل متبادلة تُدفع فواتيرها من اللحم الحيّ.

يبقى الامتحان عند رأس الدولة، الرئاسة ليست منصّة علاقات عامة، والجيش ليس شركة تأمين. مَن وصل إلى بعبدا من قبل لم يصل لأنّه فيلسوف أو مصرفي، بل لأنّه رمزُ القوّة الشرعية ووحدة الوطن. من هنا، فإنّ أخطر ما يمكن أن تقدّمه السلطة اليوم هو مزيدٌ من "البهلوانيات السياسية" و"بِدَع" التفسير التي تُجهِّز المسرح لضربةٍ إسرائيلية أكبر وتُهَيء البلد لعزلةٍ أعمق. أمّا أقلّ ما يمكن أن تفعله، فهو أن تتوقّف عن السير ضدّ الطبيعة، وأن تعترف بأنّ لحظةَ التحوّل الإقليمي فرصةٌ لا تتكرّر: إمّا أن نُدخِل لبنان في جاذبية الاستقرار العربي، وإمّا أن نتركه يهوي في جاذبية الفراغ.

الخلاصة بسيطة بقدر ما هي صارمة، حصرية السلاح ليست بتفصيلٍ شكلي، بل هي شرط لقيام الدولة. وكلّ ما عدا ذلك تفاصيل. وإذا كانت السلطة جادّة، فلتُعلن للجمهور اللبناني وبوضوح عَمّا تقوم به، وكيف، ومتى. وإلا فإنّها لا تُدير أزمةً، بل تُدير انهيارًا.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.