"أُفضل أن أموت من أجل الحق ولا أحيا دقيقة واحدة عبداً للخطيئة".. مقولة للمناضل اللبناني يوسف بك كرم، لطالما ألهبت المشاعر وألهمت الأجيال، حتى بدت كأنها الشعار النهائي للكرامة والتضحية. فهي ترسم صورة بطولية حاسمة: الموت الشريف خير من الحياة الذليلة.
لكن السؤال الذي يفرض نفسه بعد انطفاء جذوة الحماس: هل يكفي أن نموت من أجل الحق؟ أم أن التحدي الأكبر هو أن نعيش من أجله؟
الموت قد يخلّد ذكرى الفرد، لكنه يوقف فعله. أما الحق فلا يسود بموت أبطاله، بل ببقاء من ينهض به ويبنيه. لهذا فإن الحكمة تقتضي إعادة صياغة المقولة لتصبح:
"أفضل أن أعيش من أجل الحق، وإذا مت مدافعًا عنه فهناك آلاف غيري يعيشون ليكملوا المسيرة".
بهذا المعنى، لا تُلغى قيمة التضحية، لكنها توضع في إطارها الصحيح: ذروة الفعل لا بديله. التضحية الحقيقية ليست إسقاط الراية، بل تسليمها لجيل جديد يواصل السير.
هنا يبرز الفرق بين ثقافة "الموت من أجل" التي تستهلك نفسها في العاطفة، وثقافة "الحياة من أجل" التي تُترجم الشعارات إلى فعل يومي وبناء مستمر. فالحي وحده هو القادر على تحريك عجلة التغيير، وعلى مقاومة الخطيئة ليس بالرفض الانفعالي، بل بالصبر والمثابرة والإبداع.
هذا يقودنا إلى التشخيص الأعمق الذي طرحه الكاتب السعودي الراحل عبدالله القصيمي في كتابه الصادم "العرب ظاهرة صوتية". لقد قدم فيه وصفًا لاذعًا لكنه ضروري، حين أشار إلى أن الميزة الأساسية للعرب – في سياقه النقدي – هي ميلهم المفرط إلى الكلام والبلاغة والخطابة، على حساب الفعل والمنطق والواقع. لقد جاء كتابه كرد فعل على الصدمة المدوية لهزيمة 1967، التي كشفت الهوة السحيقة بين صخب الخطابات الرنانة عن النصر، وواقع التراجع والهزيمة. لقد انهارت الأوهام التي غذتها الشعارات، وظهر أن "أمتنا أمة كلام"، كما لاحظ الكاتب.
إن الجمع بين مقولة كرم الأصلية (بصورتها العاطفية) ووصف القصيمي، يخلق صورة واضحة للمأزق: ثقافة تمجد التضحية النهائية (الموت من أجل الحق) ولكنها في الوقت نفسه تكتفي بالتعبير عنها خطابيًا دون تمثلها فعليًا في الحياة اليومية. نحن نرتاح للخطاب البطولي لأنه لا يطلب منا سوى الحماس العاطفي اللحظي، بينما يرهبنا فعل العيش من أجل الحق لأنه التزام طويل، صعب، وغير مرئي، يتطلب صبرًا وعملاً دؤوبًا وتخطيطًا واستعدادًا لمواجهة الإحباط لا لمجرد الموت في سبيل مبدأ.
الخطر الحقيقي هو عندما تتحول المقولة النبيلة مثل مقولة كرم إلى شعارات جوفاء، نرفعها في المناسبات لنشعر بالفخر دون أن نتحمل تبعاتها العملية. عندها نتحول إلى "ظاهرة صوتية" بحق، نصدق أن تكرار الكلمات البليغة عن الحق والحرية يساوي تحقيقها.
الخلاصة: ليست المشكلة في المقولة نفسها، فهي تحمل قيمة أخلاقية رفيعة. المشكلة في كيفية فهمنا لها وتداولها.
المطلوب اليوم أن ننتقل من الترديد إلى التفعيل. بتحويلها من شعارات بطولية للاستهلاك الداخلي إلى برامج عمل للحياة. أن نعيش من أجل الحق يعني أن نتعلم، ننتج، نبني مؤسسات، نحاسب المسؤول، ندافع عن المظلوم في المحاكم، نزرع فكرة، نربي جيلاً. إنها مقاومة الخطيئة بأن نصبح أفضل في عملنا، أصدق في علاقاتنا، وأشجع في قول كلمة الحق كل يوم، وليس فقط في اللحظة الأخيرة.
فقط عندما نصل إلى هذه المرحلة، سنتحول من أمة تتبارى في رفع الشعارات إلى أمة تبني واقعًا يسود فيه الحق بالفعل، لا بالكلام فقط.