: آخر تحديث

أوهام الاعتراف الأحادي: لماذا تبقى المفاوضات السبيل الوحيد إلى السلام

2
2
2

شهدت الأسابيع الأخيرة موجة من الاعترافات الأحادية الجانب من قبل دول غربية بـ"الدولة الفلسطينية"، ما خلق وهماً خطيراً بأنَّ مثل هذه الإعلانات يمكن أن تتجاوز التعقيدات الجوهرية للصراع الإسرائيلي - الفلسطيني. ومن منظور إسرائيلي، فإنَّ هذه الخطوات لا تقتصر على كونها غير مجدية فحسب، بل إنها تقوّض فعلياً إمكانية تحقيق سلام حقيقي ودائم، سلام لا يمكن أن يُبنى إلا من خلال مفاوضات مباشرة وثنائية.

الفكرة القائلة إنَّ إعلاناً دولياً قادراً على استحضار دولة ذات سيادة وقابلة للحياة في منطقة شديدة التعقيد والتقلب كالشرق الأدنى، ليست سوى تغليب التمنيات على الحكمة السياسية الواقعية. فعلى مدى عقود، أكدت إسرائيل باستمرار أن حل الدولتين، وهو رؤية تدعمها في مجملها، لا بد أن ينبثق من محادثات مباشرة بين الأطراف المعنية. هذا ليس تكتيكاً تفاوضياً، بل اعتراف بحقائق جيوسياسية أساسية. فالدولة الفلسطينية القابلة للحياة تحتاج إلى ترتيبات أمنية متينة، وإلى حدود متفق عليها، وإلى حلول مشتركة لقضية القدس، فضلاً عن معالجة لقضية اللاجئين، وكلها ملفات حساسة للغاية ولا يمكن أن تُفرض من قبل قوى خارجية.

إنَّ موجة الاعتراف الحالية، بدلاً من أن تيسر السلام، تعزز لدى بعض الفصائل الفلسطينية الاعتقاد بأنها قادرة على انتزاع دولة من دون الاضطرار إلى الدخول في التنازلات المؤلمة والتسويات الصعبة التي تميز أي عملية سلام ناجحة. فهي تبعث برسالة واضحة مفادها أن تجاوز طاولة المفاوضات، بل وحتى اللجوء إلى العنف، قد يجلب مكاسب دولية. هذه السردية مدمرة للغاية، إذ تكافئ التشدد وتثبط الحوار الضروري للتعايش.

إضافة إلى ذلك، تتجاهل هذه الخطوات الأحادية المخاوف الأمنية العميقة التي تقود السياسات الإسرائيلية. فالتجارب السابقة لانسحابات أو محاولات "الأرض مقابل السلام" قوبلت للأسف بتفاقم التهديدات الأمنية، من إطلاق الصواريخ إلى الاعتداءات الإرهابية كما شهدناه في السابع من تشرين الأول (أكتوبر). لذلك، فإن أي دولة فلسطينية مستقبلية، حتى تُقبل من جانب إسرائيل، يجب أن تكون منزوعة السلاح وألا تشكل تهديداً لمواطنيها. وهذه ليست شروطاً يمكن صياغتها من بعيد، بل تتطلب مفاوضات وجهاً لوجه، بروتوكولات أمنية مفصلة، والتزامات قابلة للتحقق لا توفرها إلا المفاوضات المباشرة.

من الضروري إدراك أن الاعتراف من دون شراكة حقيقية وضمانات أمنية ليس سوى لفتة فارغة. إنه يهدد بخلق دولة اسمية فقط، قد تفتقر إلى القدرة المؤسسية أو الاستقرار الاقتصادي أو البنية الأمنية اللازمة للنجاح، ما قد يجعلها مصدر اضطراب جديد في المنطقة. فالدولة الحقيقية ليست مجرد لقب دبلوماسي، بل قدرة ملموسة على الحكم الفعّال، تأمين الحدود، وتوفير احتياجات الشعب.

لقد مدّت إسرائيل يدها للسلام مراراً، من كامب ديفيد إلى أنابوليس وما بعدها. وبالرغم من أن هذه الجهود لم تحقق دائماً نتائج، فإن المبدأ الجوهري ظل ثابتاً: الحلول يجب أن تُصاغ من قبل المتأثرين بها مباشرة. والمجتمع الدولي، مهما كانت نواياه حسنة، لا يستطيع أن يفرض سلاماً لا يحظى بقبول الإسرائيليين والفلسطينيين معاً. فدوره ينبغي أن يقتصر على تيسير وتشجيع الحوار، دون أن يسبق نتائجه بخطوات رمزية تزيد المواقف تصلباً وتقلل الحوافز للانخراط الحقيقي في المفاوضات.

في نهاية المطاف، إنَّ الطريق إلى حل الدولتين، أي إلى إسرائيل آمنة تعيش إلى جانب دولة فلسطينية سلمية ومزدهرة، لا يمر عبر الاستعراضات الأحادية للاعتراف، بل عبر العمل المضني، المليء بالإحباط أحياناً، لكنه في نهاية الأمر عمل لا غنى عنه: المفاوضات المباشرة. فمن خلال هذه المباحثات، مهما كانت صعوبتها، يمكن بناء الثقة تدريجياً، وصياغة التنازلات، والوصول إلى سلام دائم يعالج التطلعات المشروعة والاحتياجات الأمنية لكلا الشعبين.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.