: آخر تحديث
قراءة في تحولات المشهد السوري:

أحمد الشرع بين الإرث الأيديولوجي ومتطلبات الدولة

2
1
2

لم يكن ظهور الرئيس السوري قبل فترة وجيزة في لقائه مع وفد من الإعلاميين العرب إجراءً بروتوكوليًا، بل مؤشّرًا على محاولة إعادة تعريف موقعه في المشهد السياسي السوري. فالشرع، الذي ينتمي إلى جيل صاغته المرجعيات العقائدية، يبدو اليوم في طور انتقال نحو خطاب يركّز على متطلبات الدولة الحديثة. وزيارته إلى نيويورك، متضمنة خطابه في الأمم المتحدة واجتماعاته مع مسؤولين أميركيين وأوروبيين، عكست اتجاهاً لتوسيع دائرة الحضور من الداخل السوري إلى الإقليم والعالم، بحثًا عن تعزيز شرعيته عبر الانفتاح والتنمية الاقتصادية بدلًا من الارتهان للولاءات الأيديولوجية.

أعلن الشرع بوضوح أنه ليس امتدادًا لتيارات الإسلام السياسي ولا لخطاب ثورات الربيع العربي، في إشارة إلى مراجعة فكرية وسياسية تسعى إلى تجاوز تجارب أخفقت في إدارة الحكم أو تقديم نموذج ناجح. ولم يكن هذا الموقف موجهًا إلى الداخل السوري فحسب، بل إلى الإقليم والمجتمع الدولي الباحثين عن ضمانات لاستقرار المرحلة الانتقالية.

غير أن هذا الطرح يثير سؤالًا جوهريًا: هل يعكس قناعة استراتيجية راسخة أم أنه مجرد براغماتية لطمأنة الأطراف الداعمة؟ فمن جهة، حرص الشرع على نقد الإسلاميين والقوميين معًا، واضعًا الاقتصاد بوصفه "البوصلة الوحيدة". ومن جهة أخرى، جاءت بعض اختياراته مثيرة للجدل، إذ أبقى على شخصيات ارتبطت ببيئات إسلامية أو بأنظمة إقليمية داعمة لها، مما يفتح الباب أمام تساؤلات حول قدرته على إنجاز قطيعة فعلية مع الماضي.

العلاقة مع السعودية وحلفائها في هذه المرحلة تبدو محورية؛ فالمملكة جعلت من التنمية والاقتصاد أولوية قصوى في رؤيتها الإقليمية، ولا يمكن أن تدعم مشروعًا يُدار بعقلية الجماعات أو الولاءات الضيقة. إن استمرار دعمها مشروط بقدرة دمشق الجديدة على إظهار توجه نحو مؤسسات دولة قائمة على الكفاءة والتخصص، لا على قاعدة "الثقات" ودوائر التنظيمات والجماعات. ويبدو أن الشرع واعٍ لهذه المعادلة، ومدرك كذلك لتجارب عربية حظيت بدعم سخي لسنوات طويلة، لكنها سلّمت مفاتيح مؤسسات الدولة ـ وعلى رأسها الاقتصاد ـ لإدارة عسكرية مرتبكة وفاقدة للرؤية، فظلّت تعاني من أزمات اقتصادية واجتماعية مستمرة، مما خيّب آمال السعوديين وأدى إلى تراجع اهتمامهم.

وإذا كانت زيارته إلى نيويورك وخطابه في الأمم المتحدة قد وفّرا له فرصة لإيصال رسالته إلى القوى الكبرى، فإن هذه القوى بدورها ستتابع مدى جدّية التحول الذي يطرحه. فالمجتمع الدولي لن يكتفي بالشعارات، بل سيختبر عمليًا قدرته على إدماج كفاءات تكنوقراطية مستقلة في قطاعات الاقتصاد والإدارة والبنية التحتية والتعليم وسائر مؤسسات الدولة.

الإشكالية الأعمق تكمن في معادلة الحكم بعد النزاعات: كيف يمكن التوفيق بين الوفاء للرفاق الذين خاضوا الحرب والصراع منذ البداية وبين الحاجة إلى بناء مؤسسات حديثة قادرة على الإعمار والتنمية؟ الشرع يتحرك في منطقة وسطى؛ يترك الباب مفتوحًا أمام بعض الشخصيات ذات الخلفية الإسلامية أو الإعلامية المعارضة، لكنه في خطابه يؤسس لمرحلة جديدة شعارها “الاقتصاد أولًا”.

التجارب المقارنة في العالم أظهرت أن التخلص من إرث الأيديولوجيا ليس قرارًا خطابياً، بل عملية تراكمية تتطلب شجاعة سياسية وتحالفات إقليمية ودولية متينة. الشرع يراهن على الانفتاح تجاه السعودية وحلفائها من جهة، وعلى كسب ثقة القوى الغربية من جهة أخرى، لكنه ما زال محكومًا بتركة حلفاء الأمس. ومن هنا، فإن مستقبل سوريا سيتوقف على قدرة قيادتها الجديدة على تحويل هذا التوازن الدقيق إلى عملية انتقالية فعلية، تعيد تعريف الدولة بوصفها مؤسسة مدنية تنموية، لا أداة لتنظيم أو ساحة لتصفية الحسابات.

وعليه، فإن مسار الرئيس السوري ليس مجرد اختبار للنوايا، بل امتحان لقدرة رجل يسعى إلى الانتقال من خطاب المعارضة والفصائل إلى منطق الدولة والتنمية. فالاختيار بين "الكفاءات" و"الثقات" ليس تفصيلًا إداريًا عابرًا، بل قرار مصيري سيحدد مآلات مشروعه برمته: هل يبقى أسير توازنات الماضي، أم يجرؤ على خطوة إلى الأمام تؤسّس لسوريا ما بعد الأيديولوجيات الشمولية والأصولية.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.