: آخر تحديث

مخدّر "عالم جديد شجاع"

1
1
1

في رواية «عالم جديد شجاع» للكاتب البريطاني ألدوس هكسلي، تعيش البشرية في سعادة مصطنعة بفضل السومـا، وهو عقار بلا آثار جانبية يغمر متعاطيه في حالة من الراحة والهناء، لكنه في الوقت نفسه يلغي إرادته ويعطّل أفكاره.

في عام 1931، نشر ألدوس هكسلي مقالة قصيرة بعنوان "البحث عن متعة جديدة"، خلص فيها إلى أن مشاعر التسلية أو الملل لدى الإنسان الحديث لا تختلف كثيرًا عن تلك التي عرفتها الحضارات السابقة، لكنه تمنى اكتشاف عقار قادر على تحويل الإحساس البشري دون أن يخلّف أضرارًا جسدية أو نفسية.

وبعد عام واحد فقط، أصدر روايته التي تُعد حتى اليوم، إلى جانب "1984" لجورج أورويل و"فهرنهايت 451" لري برادبري، من أعظم ما كُتب في أدب الديستوبيا. في هذا العمل، يصوّر هكسلي مجتمعًا بُني صناعيًا، تتحكم فيه سلطة شبه خفية تحرص على دوام نظام محدد سلفًا، قائم على سعادة زائفة.

المجتمع الذي رسمه هكسلي مصطنع منذ الجذور: البشر يولدون عبر هندسة جينية ويُقسّمون إلى طبقات صارمة شبيهة بالطبقات الهندوسية، بحيث يقبل كل فرد دوره دون اعتراض. أراد هكسلي بهذا التحذير من أخطار الرأسمالية المتسارعة آنذاك.

لكن جوهر القضية ليس «ماذا» بل «كيف»: كيف يمكن إبقاء شخص يعمل بلا توقف لصالح غيره سعيدًا طوال حياته؟ الجواب هو: السومـا. عقار «مبهج، مخدّر، سارّ، وهلاوسي على نحو لطيف» لا يترك أي آثار جانبية. يحصل سكان «يوتوبيا» على هذا الدواء بحرية، لا يقيّدهم سوى من يريد أن يبقوا تحت السيطرة.

بفضل هذا العقار، تُمنع أي مظاهر تمرد أو سخط اجتماعي، وتُمحى كل الأفكار المعارضة. الجميع سواء في سعادة مصطنعة تلغي الدوافع الطبيعية للبشر. فمن لا يرغب بما لا يستطيع الحصول عليه، يرى السعادة ممكنة ومكتملة. لا مكان للمعاناة، ولا حاجة إلى عزاء، حتى الدين يصبح غير ضروري. السومـا يلغـي الإرادة والفردانية والتنوّع، فينشأ مجتمع بلا حروب ولا فقر، لكنه أيضًا بلا تفكير نقدي، بعد أن انتشر فيه «عبادة الجهل» كما وصفها لاحقًا إسحاق عظيموف.

استلهم هكسلي اسم الدواء من الفلسفة الهندوسية، حيث يُذكر السومـا في النصوص الفيدية القديمة كشراب مقدّس، بل كإله بحد ذاته، رغم أن طبيعته الحقيقية بقيت مجهولة.

كان اهتمام هكسلي بالمخدرات مؤكدًا، فقد جرّب LSD والسيولوسيبين والمسكالين وغيرها، لكن إيمانه كان أن هذه المواد قد تساعد على تقوية الفرد والمجتمع عبر الوعي، لا عبر الإلغاء كما يفعل السومـا. وكما كتب في "عالم جديد شجاع": «الدكتاتورية الكاملة ستبدو كالديمقراطية، لكنها في حقيقتها سجن بلا جدران، لا يحلم السجناء فيه بالهرب. ستكون نظامًا للعبودية، حيث يحب العبيد قيودهم بفضل الاستهلاك والترفيه».

وإذا نظرنا إلى حاضرنا، قد لا تبدو تلك «الدكتاتورية المثالية» مجرد خيال أدبي، بل تنبؤًا بما نحن فيه. يبقى السؤال: ما هو السومـا الذي نستهلكه نحن اليوم برضا؟


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.