: آخر تحديث

باغرام… مرة أخرى

2
2
2

 

 

أفغانستان دولة تمثل السهل الممتنع، فهي رغم جبالها الوعرة وطرقاتها الصعبة وبساطة حياة شعبها، تبقى مرغوبة ومذمومة في آن واحد من القوى الكبرى. أرض تبدو فقيرة في ظاهرها، لكنها غنية بموقعها الجغرافي وثرواتها المخبأة، ومليئة بتاريخ جعلها مقبرة للغزاة منذ الإسكندر المقدوني وحتى الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة. هذه البلاد التي لا تهدأ، لا تعطي لأحد مفتاح السيطرة بسهولة، بل تفرض ثمناً باهظاً على كل قوة تحاول أن تضع يدها عليها.

قاعدة باغرام ليست مجرد منشأة عسكرية عادية، بل هي أكبر قاعدة جوية أقامتها الولايات المتحدة في أفغانستان منذ 2001، على بعد نحو 50 كيلومتراً شمال كابول، وقد استخدمتها واشنطن مركزاً لعملياتها الحربية، ومستودعاً لآلاف الجنود والمعدات، ومقراً لإدارة الحرب على طالبان والقاعدة. كما ارتبط اسمها بملفات حساسة مثل الاعتقالات والتحقيقات السرية، ما جعلها رمزاً للنفوذ الأمريكي، وفي الوقت ذاته رمزاً للكراهية تجاه هذا الوجود. وقد كان سقوطها بيد طالبان في أغسطس 2021 اعتُبر علامة النهاية الحقيقية للتجربة الأمريكية في أفغانستان، وجرس إنذار عن تراجع القوة الأمريكية في واحدة من أطول حروبها.

ومن هنا جاء تصريح الرئيس الأمريكي الحالي دونالد ترامب في 20 سبتمبر 2025، حيث قال عبر منشور على منصته: "إذا لم تُسلّم أفغانستان قاعدة باغرام لأولئك الذين بنوها، الولايات المتحدة الأمريكية، أمور سيئة ستحدث". هذا التصريح لم يكن مجرد كلام عابر، بل محاولة لإعادة رسم النفوذ الأمريكي بعد الانسحاب المذل عام 2021، واستعادة رمز تم فقده، وإن كان الثمن غالياً.

لكن رد طالبان على هذه الرغبة لم يكن دبلوماسياً ولا حتى غامضاً، بل جاء ساخراً ومباشراً: "هيا أيها الأمريكيون تعالوا لصرف المليارات والعودة مهزومين مذلولين.. واتركوا هنا خردة حديثة أخرى!". في اعتقادي، لم تكن هذه الجملة مجرد استهزاء، بل كانت تعبيراً عن ثقة الحركة بنفسها، وتأكيداً على أنها اليوم تتحدث من موقع قوة بعدما فرضت سيطرتها على الأرض.

الحقيقة أن طالبان، رغم خطابها المتشدد، لم تعد مجرد جماعة مسلحة تختبئ في الجبال. هي اليوم سلطة أمر واقع تدير دولة كاملة، تتحكم في الوزارات والمحاكم والجيش والشرطة. بلا شك، هذا الواقع يمنحها نفوذاً يجعلها لاعباً لا يمكن تجاوزه، وقد يختلف المراقبون حول شرعيتها أو مدى تمثيلها للشعب الأفغاني، لكن لا أحد يستطيع إنكار أنها الحاكم الفعلي لكل تفاصيل الحياة هناك.

بلاشك ان أيديولوجيا طالبان تقوم على تصور ديني صارم يفرض قيوداً قاسية على النساء والتعليم والإعلام، ما يجعلها في نظر كثيرين نموذجاً متحجراً خارج الزمن، ومع ذلك، أثبتت التجارب أن هذه الأيديولوجيا لا تمنع الحركة من التعامل بلغة المصالح حين تقتضي الحاجة. فقد أبرمت في السابق تفاهمات مع الأمريكيين، وقبلت بصياغات تسمح بانسحاب قواتهم مقابل ضمانات أمنية. وهنا تكمن مفارقة طالبان، خطاب متشدد في العلن، وبراغماتية حذرة في الكواليس.

الحقيقة انه ومن الناحية الاقتصادية، تملك الحركة اليوم مصادر تمويل أكبر بكثير مما كان لديها في التسعينيات. فهي تسيطر على الجمارك والضرائب، وتستفيد من ثروات طبيعية مثل النحاس والليثيوم، إضافة إلى شبكات تجارة محلية وإقليمية. هذه العائدات، التي يرى المراقبون أنها تصل إلى مئات الملايين سنوياً، وفرت لطالبان القدرة على دفع الرواتب وتثبيت أجهزتها الأمنية والإدارية، وبالتالي لم تعد الحركة تعيش على التبرعات والاقتصاد الموازي فحسب، بل باتت تمسك بموارد دولة كاملة.

لكن طالبان، رغم خطابها الصارم، ليست بعيدة عن لغة المصالح. فهي كأي سلطة حاكمة لها احتياجات أساسية لا يمكن تجاهلها، في مقدمتها المال والشرعية. المال يمكّنها من إدارة الدولة ودفع رواتب المقاتلين والموظفين والحفاظ على ولاء شبكات النفوذ، والشرعية تفتح لها قنوات اتصال مع العالم وتخفف من عزلتها الخانقة. إلى جانب ذلك، تحتاج طالبان إلى ضمانات أمنية تحمي قادتها من الملاحقة الدولية، وإلى استثمارات في البنية التحتية والموارد الطبيعية حتى تحافظ على تماسك اقتصادها. هذه الاحتياجات، في اعتقادي، هي الثمن الذي قد يجعل الحركة تساوم على تفاهم مع الولايات المتحدة أو غيرها، ليس لأنها غيّرت أيديولوجيتها، بل لأنها تدرك أن البقاء في الحكم يتطلب أدوات تتجاوز الشعارات.

وعلى الرغم من ذلك فإن لم تستجب طالبان لأي تفاهمات أو مساومات، فإن خيارات الرئيس الأمريكي لن تكون مفتوحة بلا حدود. في اعتقادي، أول ما قد يلجأ إليه البيت الأبيض هو سلاح العقوبات الاقتصادية، وهو سلاح أثبت عبر العقود أنه قد يكون أشد مرارة من المدافع والطائرات. فأفغانستان دولة هشة اقتصادياً وتعتمد على تدفق المساعدات والتجارة عبر قنوات محدودة، وأي تضييق إضافي سيضاعف معاناة الشعب، ويضع الحركة تحت ضغط داخلي وخارجي، وإدراج شخصيات من طالبان في قوائم سوداء، أو تجميد أموالها في الخارج، أو فرض قيود على صادراتها من المعادن والموارد، قد يصبح أداة رئيسية لإجبارها على الجلوس إلى الطاولة. وهنا يظهر التناقض الأكبر، طالبان التي ترفض التدخل الأجنبي علناً قد تجد نفسها في النهاية رهينة قرارات اقتصادية تصدر من واشنطن.

الخلاصة أن مشهد ترامب يريد العودة وطالبان تسخر منه ليس مجرد تراشق إعلامي، بل هو تعبير عن معادلة أعمق، فأمريكا تبحث عن استعادة رمز مفقود يعيد لها هيبتها، وطالبان تبحث عن استمرار حكمها وسط عزلة خانقة. وما بين خطاب يعيش في الماضي ورغبة في صياغة رواية جديدة، يظل "الثمن" هو كلمة السر. طالبان، رغم رجعيتها، تحتاج إلى السلطة والمال لتبقى، وأمريكا، تبحث عن مصالحها الاستراتيجية. وفي النهاية، بلا شك، سيبقى السؤال مفتوحاً... من سيدفع الثمن أولاً، ومن سيحصل على ما يريد؟


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.