في يوم الثلاثاء التاسع والعشرين من شهر أيلول (سبتمبر) عام 2020، نعى الديوان الأميري في دولة الكويت الشقيقة صاحب السمو الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح أمير البلاد رحمه الله عن عمرٍ ناهز 91 عامًا بعد حياة عملية حافلة بالمحطات الفاصلة محليًا وإقليميًا ودوليًا تُوّجت بتسمية سموه قائدًا للعمل الإنساني من قِبل هيئة الأمم المتحدة في التاسع من سبتمبر عام 2014 تقديرًا من المنظمة الدولية لصنائع سموه الخيّرة التي لازمت عمله الدبلوماسي الممتد لأكثر من خمسة عقود وترأسه لعشرات المنظمات الإنسانية داخل الكويت وخارجها.
خمسة أعوام تمضي على رحيل صاحب السمو الشيخ صباح الأحمد رحمه الله، ولمّا يزل أثره ومآثره تأخذ مكانها الرحب في الذاكرة الخليجية والدولية، ولن أسرد الجانب الرسمي من مسيرته فجميع المهتمين يعلمونها حق المعرفة، لكنني سأتوقف طويلاً عند الجانب الآخر من حياته: صباح الأحمد الإنسان الكويتي البسيط.
في الثامن والعشرين من حزيران (يونيو) عام 2005، كانت الطائرة الأميرية الكويتية تُحلّق في السماء مغادرة الكويت باتجاه عاصمة الولايات المتحدة الأميركية واشنطن، وعلى متنها سمو رئيس مجلس الوزراء – في ذلك الحين – الشيخ صباح الأحمد ملبيًا دعوة رسمية من الرئيس الأميركي – آنذاك – جورج دبليو بوش. كان من ضمن الوفد الإعلامي المرافق لسموه المذيع المخضرم الأستاذ يوسف الجاسم الصقر، الذي استغل طول ساعات الرحلة ليتفق مع ثلة من زملائه الإعلاميين في الوفد على إجراء حوار تلفزيوني غير تقليدي مع سمو الشيخ صباح على أن يتم تجنّب أي سؤال يتعلق بالسياسة والأحداث الراهنة حينها، وليقتصر الحديث فقط على الجوانب الشخصية وتجارب سموه الحياتية. هذا الحوار أصبح لاحقًا حديث الساعة، وأمسى الأول من نوعه على مستوى قادة العالم العربي، وبات مادة توثيقية ثرية، ويسعدني تناول بعض ما جاء فيه عبر النقاط التالية:
كان سمو الشيخ صباح الأحمد رحمه الله لديه فلسفة في الحياة تقوم على البساطة، وكان يتساءل: ماذا يريد الإنسان من هذه الحياة؟ ويُجيب: أن تعيش لا أحد يؤذيك وأن تكون صحتك جيدة، ثم وجّه نصيحة مفتوحة للجميع بأن لا تخدعهم الأموال والجاه وتجعلهم يتكبّرون على الناس، مؤكدًا بأن الإنسان لا يفيده سوى نواياه الطيّبة وبساطته مع نفسه والآخرين.
كان يوم سمو الشيخ صباح الأحمد يبدأ في الثامنة صباحًا حيث يتناول الإفطار وفي معيته بعض أقاربه وأصحابه، ذكر منهم ابن أخته سمو الشيخ الدكتور محمد صباح السالم الصباح – رئيس مجلس الوزراء السابق وكان حينها نائبًا للشيخ صباح ووزيرًا للخارجية – ثم ينطلق الجميع بعد ذلك لمقرات أعمالهم. وبحكم موقعه ومسؤولياته كان من الطبيعي ازدحام جدوله اليومي باستمرار. بعد الظهر يقرأ سموه الصحف اليومية المحلية والعربية والأجنبية عبر ملخّص يتم إعداده لسموه، ثم يعود لمنزله في العاشرة مساءً ليجد على سريره عدة مظاريف كبار مرسلة من رئاسة مجلس الوزراء تحتوي على المعاملات التي لم يسعفه الوقت للنظر فيها وقت الدوام الرسمي، فينشغل بها بين التوقيع على بعضها والتعليق على البعض الآخر حتى الساعة الثانية عشرة بعد منتصف الليل، ثم يتفرغ بعد ذلك لمشاهدة التلفزيون حيث كانت تستهويه أفلام الأكشن والحيوانات ومباريات كرة القدم، ولا يتناول وجبة العشاء إطلاقًا.
كان سمو الشيخ صباح الأحمد يحب لعبة الورق أو (الجنجفه) بالمحكي الكويتي، وفي حال كان اللعب (كوت بوسته) كان يفضّل أن يكون فريقه مكونًا بالإضافة لسموه صديقيه المرحوم عبدالله محمد العبدالرزاق والمرحوم محمد جاسم المسكتي، والأخير كان أحد كبار النواخذة في الكويت، وهو وراء اكتشاف ساحل طوله 30 كيلومترًا في سلطنة عمان الشقيقة لا يوجد به أحد سوى قرية لا يتجاوز عدد سكانها 700 شخص، فأصبحت لاحقًا وجهة الشيخ صباح الدائمة في جميع إجازاته.
والشيء بالشيء يُذكر خلال عملي الصحفي السابق في جريدة الرياض، وبعد نهاية إحدى حواراتي مع السفير العُماني السابق لدى المملكة صاحب السمو الأخ العزيز السيد فيصل بن تركي آل سعيد، كانت أمامنا صورة كبيرة لخريطة السلطنة، طلبتُ من سموه الكريم أن يحدد لي تلك المنطقة، وأفادني سموه بأنها نيابة الشويمية، وهي مشهورة بوفرة الأسماك، والقريبون يعلمون بأن الشيخ صباح رحمه الله كان متيّمًا بالحداق (صيد السمك)، ويرى سموه بأن الحداق يعلّم الصبر، خصوصًا الصيد على الساحل (حداق اليال)، ويفضّل من الأسماك: الهامور والسبيطي والشعري. ولم يُخفِ سموه حبّه للطبخ، حيث يتنافس مع حفيداته وأصدقاءه بإعداد الأطباق الشعبية الكويتية سواء خلال عطلة نهاية الأسبوع في مزرعته في الكويت (طروب) أو الإجازات الطويلة في بيته في نيوجيرسي الأميركية، وكان لافتًا بأن سموه خلال حديثه التلفزيوني لم ينسَ ذكر اسم أحد العاملين لديه وهو (حسن) الذي كان يقوم بإعداد حقائب سفره، وسمّاه بـ(راعي البيت) في لمحة إنسانية غير مستغربة من أبي ناصر صاحب القلب الكبير رحمه الله.
كان سمو الشيخ صباح الأحمد يحب التسوّق والسينما لكنه محروم منهما داخل الكويت كونه شخصية معروفة، بينما يجد راحته خارج الكويت، خصوصًا في مدينة نيويورك الأميركية، لأنه يعرف طرقاتها جيدًا ولديه رخصة أميركية لقيادة السيارة حيث يقود سيارته بنفسه، فيقضي معظم وقته بالتسوق وحضور بعض الأفلام في دور السينما، كما أنه مستمع جيد للفنون البحرية ووصف فن (النهمة) بأنها كالغذاء بالنسبة له، كما كان يحب الاستماع بين الحين والآخر لكوكب الشرق أم كلثوم.
تحدّث سمو الشيخ صباح الأحمد عن زوجته الوحيدة الشيخة فتوح السلمان الحمود الصباح (1931 – 1990) رحمهما الله، قائلاً بأنها عاشت معه 40 عامًا راجيًا من الله أن يلقاها في الجنة، كما تحدّث عن ابنته الوحيدة الشيخة سلوى صباح الأحمد (1951 – 2002) رحمها الله، ووصفها بأنها كانت تملأ البيت عليه وكانت في محل والدتها من جهة الإشراف على كل شيء فيه قبل أن تتوفى متأثرة بمرض السرطان، وقد أسمى دار سكنه الجديد لاحقًا بـ(دار سلوى) تيمنًا بها، ولأنها رحمها الله أشرفت على كل صغيرة وكبيرة في ذلك المنزل.
عبّر سمو الشيخ صباح الأحمد عن محبته الغامرة لوالدته الثانية وزوجة والده الشيخة بيبي السالم المبارك الصباح أم الشيخ جابر الأحمد رحمهم الله، واصفًا إياها بوالدة الجميع، وروى حادثة مؤثرة بمناسبة الحديث عنها، حيث كان يقوم بدوره كوزير للخارجية بعمل وساطة لوقف إطلاق النار بين اللبنانيين والفصائل الفلسطينية عام 1973، وإذا باتصال هاتفي يأتيه من أخيه الشيخ جابر الأحمد يبلغه بأن والدته الشيخة بيبي قد توفيت وسيتم دفنها غدًا، وحثّه على العودة إلى الكويت، والشيخ صباح حائرًا فالطائرة الخاصة به في سوريا ولا يستطيع الخروج بسبب عدم توقف الرصاص بين الطرفين المتنازعين، حيث كان وقتها مقيمًا في منزل رئيس الجمهورية اللبنانية آنذاك سليمان فرنجية (1910 – 1992)، لكنه استطاع العودة للكويت لاحقًا بعد دفن الشيخة بيبي، وعندما قام بتعزية أخيه الشيخ جابر بكى، فحاول الشيخ صباح تهدئته، فقال الشيخ جابر: أنا لا أبكي على والدتي، لكن أبكي على موقفها حيث قالت: "وين صباح أبي أشوفه قبل لا أموت"، يقول الشيخ صباح، فأثر فيني هذا الموقف وبكيت.
وفي ختام هذا المقال أعتذر منكم على الإطالة، لكن مكانة الراحل الكبير الأثيرة في قلبي حتّمت علي الإسهاب في هذا الموضوع، وقد سبق لي الحديث مع سعادة سفير دولة الكويت الحالي لدى المملكة الأخ العزيز الشيخ صباح ناصر صباح الأحمد الصباح وقلتُ له بأن جدّكم العظيم كانت لديه ابتسامة مشرقة غير مصطنعة تدخل القلب دون استئذان، ولأن سيدي الوالد رحمه الله كان إذا شاهده عبر الشاشة يقول بأن الشيخ صباح أكبر منّي بأربع أو ثلاث سنوات، سمعتها منه أكثر من مرة، مما عزّز حضور اسمه ورسمه معي منذ سنوات الطفولة. رحم الله الجميع.