تعيش أسر كثيرة جحيمًا صامتًا حين تُبتلى بوجود أب أو أم – أو كليهما – يحملان سمات نرجسية؛ جحيم لا يراه الآخرون من الخارج، لكنه يفتك بالنفوس في الداخل، ويهدم الروابط التي يُفترض أن تكون مصدر دفء وأمان. فالنرجسية لا تقف عند صاحبها، بل تنفذ إلى من حوله، فتفسد العلاقات وتقوّض أسس الثقة بين الأولاد والإخوة والأقارب. النرجسي، بما يحمله من شغف مَرَضي بالإعجاب والسيطرة، يعيد تشكيل الروابط الأسرية على مقاس غروره، مُخلّفًا وراءه انقسامات وجروحًا نفسية يصعب التئامها.
في نطاق الأسرة الصغيرة، يعيش الأولاد تحت وطأة إهمال عاطفي ينزع عنهم إحساسهم بالقيمة. يجدون أنفسهم أمام خيارين قاسيين: إما أن يتنازلوا عن هويتهم لينالوا رضا النرجسي، أو يتحملوا لومه وانتقاداته القاسية. هذا الواقع يولّد بينهم تنافسًا حادًا، حيث يُدفع بعض الأولاد إلى موقع “المفضلين” الذين يعكسون صورة الأب/الأم المثالية، بينما يُهمَّش الآخرون ويُعاملون كأحمال زائدة. عندها تتحول الأخوّة إلى خصومة، ويصبح النجاح الفردي مادة للتقليل والتشويه بدل أن يكون موضع فخر للأسرة.
ولا يقتصر الأمر على التهميش المعنوي، بل يظهر أيضًا في التقتير على أفراد الأسرة الذين لا يُصنّفون ضمن “طبقته المفضلة”، فيمنّ عليهم بأبسط حقوقهم المعيشية، وقد يمدّ عينه إلى ما عندهم ليجردهم من أي قوة أو استقلالية، ليبقيهم خاضعين له ولسيطرته، بينما لا يتردد في إنفاق الأموال الطائلة لتحسين صورته أمام المجتمع. كما أن الأسرة تجد نفسها في مواجهة شعور دائم بأنها مدينة له، إذ لا يتوقف عن تذكيرهم بما يقدمه، دون أن يعترف بما يستنزفه منهم من وقتٍ وتضحياتٍ وتعب. أما الشريك الزوجي فيجد نفسه في علاقة غير متكافئة، فيُختزل دوره إلى تلبية احتياجات النرجسي بلا تقدير أو مقابل، لتتراكم الضغوط وتتحول الحياة الزوجية إلى إنهاك نفسي قد ينتهي بالتفكك أو يستمر في توتر دائم.
ويتجاوز أثر النرجسية حدود الأسرة الصغيرة ليصل إلى العائلة الكبيرة. فالنرجسي بارع في زعزعة الولاءات، يزرع الشكوك، ويحوّل الخلافات العابرة إلى قطيعة طويلة الأمد. يمارس التلاعب لينصب نفسه مركزًا للنفوذ، فيعزل أسرته عن شبكة الدعم الطبيعي التي يُفترض أن توفرها القرابة. وهكذا يُحرم الأولاد من التوجيه والرعاية التي قد تُخفف من وطأة الإهمال الداخلي. وما يزيد الأمر تعقيدًا أنه يسعى للحفاظ على صورة مثالية أمام المجتمع، بينما يُلزم أفراد أسرته بالمجاراة، فتزداد عزلتهم وضيقهم النفسي.
من الناحية النفسية، يعيش الأولاد حالة ارتباك مزمنة: يتساءلون هل حب والديهم صادق أم مشروط؟ وهل إنجازاتهم تعكس قيمتهم الحقيقية أم مجرد وسيلة لتلميع صورة الوالد؟ هذه الأسئلة لا تختفي مع التقدم بالعمر، بل تلاحقهم إلى مرحلة النضج، فتعيق قدرتهم على بناء علاقات متوازنة أو الثقة بالآخرين. ومع تسرب هذا الاضطراب إلى شبكة القرابة الأوسع، تتآكل معاني الصلة، وتضعف الروابط، ويجد الأفراد أنفسهم في عزلة اجتماعية تفقدهم الدعم الذي تحتاجه كل نفس بشرية. أخطر ما في النرجسية الأسرية أنها لا تكتفي بإيذاء مباشر، بل تعيد تشكيل الوعي الجمعي للعائلة، وتورث جروحًا خفية تنتقل عبر الأجيال، فتحوّل طمأنينة المنزل إلى دوامة لا تنتهي من المواجهات.
ولتجاوز هذا البلاء، يبدأ الأمر بالوعي الذاتي العميق بطبيعة المشكلة، فالإدراك الأولي لآليات النرجسية يُشكّل الخطوة الأساسية نحو التحرر من أسرها. بعدها يصبح اللجوء إلى العلاج النفسي – سواء الفردي أو الأسري – ضرورة لإعادة بناء الثقة بالنفس وفهم أنماط التفاعل مع الوالد النرجسي. غير أن الأمر ليس دائمًا بهذه السهولة؛ ففي كثير من الحالات قد يكون من الصعب إقناع الشخص النرجسي بالخضوع للعلاج أو الاعتراف بمشكلته، مما يضع عبئًا إضافيًا على أفراد الأسرة لتحمّل مسؤولية التغيير بأنفسهم. في هذه الظروف، يصبح تعزيز الروابط مع الأصدقاء شبكة دعم بديلة، فيما يشكل وضع الحدود العاطفية خط دفاع أساسي ضد الاستنزاف النفسي. هذه الخطوات، مهما بدت شاقة في البداية، تفتح نافذة للرجاء، وتضع أساسًا لتحويل البيت من ساحة صراع إلى ملاذ يسوده التعاطف والاحترام، فتغدو رحلة الشفاء أمرًا ممكنًا.