: آخر تحديث

المثقف الكردي والسياسي: ثنائية الكلمة والسلطة

0
1
1

يأتي الحديث عن علاقة المثقف الكردي بالسياسي في لحظة يتبدى فيها حجم الفجوة التي تفاقمت منذ اندلاع الثورة السورية سنة 2011، إذ لم ينظر السياسي - غالباً - إلى المثقف إلا تابعاً مطواعاً أو خصماً ينبغي تهميشه، حيث لم يُعوَّل على المثقف النقدي في أية محطة، بل تم التعامل معه ككائن دخيل، وكأن السياسة لا تحتمل وجود عقل مستقل أو صوت ناقد. ولهذا فقد غابت المشاركة الحقيقية للمثقفين في محطات التحول المصيرية، واحتلت الساحة من قبل السياسي فحسب، إلى جانب وجوه رضخت لشروط السياسي، فيما حوصرت الأصوات الحرة في هامش ضيق، لا يُسمح لها بالتعبير إلا إذا كان التعبير محاطاً بقيود الولاء.

لقد تشبث المثقف الملتزم بالكلمة، بوصفها مسؤولية، إلا أنه كثيراً ما وجد نفسه أمام واقع لا يعترف بدوره، حيث السياسة تمارس نفوذاً يختزل كل شيء في الولاء. لاسيما عندما حاول بعض المثقفين الوقوف موقف الند، وهم يطرحون أسئلة تبدد الغبش المفروض، ليُجرى التعامل من قبل بعضهم مع هذا الأنموذج كخصوم، لا كطرف أو جزء من حالة واحدة. حيث أُطلقت ضد بعضهم حملات، وفسرت نواياهم على أنها بدافع المنافسة أو المنفعية، وهكذا صارت الثقافة نفسها رهينة توازنات ضيقة، بينما فقدت قدرتها على أن تكون سلطة موازية تؤدي وظيفتها المتوخاة إلى جانب السياسي، وليس كحالة إلغائية لدوره.

بين التبعية والإقصاء
من هنا نرى أن النقد، وهو جوهر الفعل الثقافي، لم يسلم من التسييس، حيث صار محكوماً بمقدار قرب المثقف أو بعده من السياسي، وما يمكن أن يناله أو يُحرم منه من امتيازات. فإذا كان قريباً، عُدّ نقده ترفاً تجميلياً، وإذا كان بعيداً، وُصف نقده بالطعن والمروق. تأسيساً على ذلك، فقد تراجع النقد من موقعه كأداة تصحيح إلى موقع سيف مسلط على صاحبه، إذ صار المثقف النقدي عُرضة للتهميش والاستعداء عليه، بينما نال المهادن الامتياز والظهور.

حيث إن المؤتمرات التي كان يُفترض أن تكون فضاءً للحوار، تحولت إلى منصات مغلقة على المقربين، إذ لم يتم فيها استدعاء الخبراء الحقيقيين في الإعلام أو الأدب أو البحث، بل جرى اعتماد قائمة أسماء معدة سلفاً وفق تراتبية الولاء. وحين حاول مثقف نقدي أن يجد له مكاناً، أُقصي، وقيل عنه إنه يشوه الصف أو يضعف الموقف. إنما الأخطر أن السياسي لم يكتفِ بهذا الاستبعاد المباشر، بل ابتكر طرقاً أكثر دقة لإخضاع المثقفين.

إذ شجع بعض السياسيين إنشاء "هيئات ثقافية" ظاهرها خدمة الإبداع، وباطنها إخضاع المثقفين، حيث تُمنح عبرها نفقات بسيطة يُقدَّم تمويلها بصفة المنّة لا الحق. فالمثقف الذي يُستدعى إلى ورشة أو نشاط، يُذكَّر بأن ما يتقاضاه هبة من السياسي، لا استحقاقاً لدوره. ومن هنا فإن العلاقة لم تعد قائمة على احترام متبادل، بل على منطق الامتنان القسري، حيث يظل المثقف مهدداً بالحرمان متى قرر أن يقول ما لا يعجب. وهكذا تحولت الكلمة إلى أسيرة حساب صغير، وتحول بعض المثقفين إلى رهائن تربيتات أو أعطيات يلوّح بها السياسي وقت الحاجة.

إذ يبرز في هذا المشهد نموذج المثقف التابع، ذلك الذي يختار طوعاً أن يضع قلمه في خدمة السياسي، وإن تحت غطاء القضية، فيغدو صوته مجرد صدى، ويصير حضوره مقترناً بحضور الحزب أو التيار، حيث لا يكتب إلا وفق ما يُراد له، ولا يتحدث إلا بما ينسجم مع الخطوط المرسومة. إنما الأخطر أنه يسوغ هذه التبعية على أنها مشاركة، بينما هي في حقيقتها تنازل عن جوهر الثقافة. فالمثقف التابع يتقن فن التسويغ، يزين خطاب السياسي، ويلمّع صورته، ويهاجم كل من يجرؤ على النقد، حيث يتم استخدامه كسيف ضد بعض زملائه المثقفين، بدل أن يكون صوتاً للحوار.

وهكذا وجدنا كيف يتحول بعض المثقفين إلى أداة، ومن صاحب رؤية إلى موظف يتلقى التعليمات، وهكذا يضيع الفرق بين من يحمل الكلمة كمسؤولية، وبين من يحمّلها على كتفيه كوسيلة للظهور والمكسب.

وهكذا فقد وجدنا كيف تكررت الانشقاقات في الوسط الثقافي، إذ تم استعداء مثقف على آخر، وزُرع الشك بينهم، حيث انتقلت العدوى من السياسي إلى المثقف، فأصبح الأخير أداة في لعبة الاستقطاب. وهكذا تحولت المنابر الثقافية إلى ساحات استعداء، بدل أن تكون فضاءً للتلاقي والتفكير، إنما هذا الواقع وهن دور المثقف، حيث لا السياسي كسب مثقفاً حقيقياً، ولا المثقف استطاع أن يحمي نفسه من العزلة.

إذ إن الأمثلة على ذلك كثيرة، حيث كانت كل محطة مفصلية تكشف عن نمط مكرر: السياسي يختار من يجلس معه، فيما يُقصى من يملك خبرة نقدية حقيقية. الإعلامي الذي راكم خبرة في متابعة التحولات يُستبعد، ويُفسح المجال أمام إعلامي مروّض يردد ما يُملى عليه. الباحث الذي قضى سنوات في دراسة التاريخ الكردي يُقصى، ويُستدعى باحث يسوغ ما يريده الحزب. الأديب الذي كتب بحرية يُهمّش، فيما يتصدر أديب آخر صفوف المؤتمرات واللقاءات والملتقيات المهمة لأنه اكتفى بالتجميل أو الإذعان. من هنا فإن الخلل لم يكن في قلة الكفاءات، بل في غياب الرغبة السياسية في الإصغاء إليها.

ومن هنا فإنه يظل السؤال: أين يقف المثقف الكردي اليوم؟ إذ يبدو أنه محاصر بين الخوف والطموح، بين رغبته في قول الحقيقة وخشيته من فقدان ما يملك من حضور محدود. السياسي - ولا تعميم دائماً - يراه تابعاً أو عدواً، أما المثقف المهادن فينال فرصة الظهور. إنما المثقف الحر، الذي يعتبر النقد مسؤولية لا خياراً، فيظل في الهامش، وتُوجه إليه سهام الأتباع. حيث يختصر المشهد في معادلة قاتلة: الكلمة الحرة تُقصى، والكلمة المطيعة تُكرم.

معركة النقد والهيمنة
في ظل مثل هذا المشهد المأزوم، يبرز واجب المثقفين في إعادة النظر في علاقتهم بالسياسي، إذ لم يعد مقبولاً أن يستمروا في موقع الدفاع أو الاعتذار، وكأن النقد خطيئة. حيث لا بد أن يُفهم أن النقد الحكيم ضرورة، وأن المثقف الناقد ضمانة لاستقامة السياسة، لا تهديد لها. إنما يجب التمييز بين من يتخذ النقد ذريعة للمهاترة، وبين من ينقد بحكمة انطلاقاً من مسؤوليته، حيث إن استيعاب المثقف الناقد شرط لأي مشروع سياسي ناجح.

إذ إن الخطر الأكبر يكمن في أن يبقى المثقف أسير عقدة الخوف، فبقاء المثقف في موقع المهادن يعني أن السياسة ستظل سيدة الموقف، وأن الثقافة ستبقى ظلاً، حيث لا يُبنى مستقبل على صمت، ولا يُشيد كيان على تبعية. بل يتم البناء حين تتكامل الكلمة مع القرار، وحين يجد السياسي في المثقف مرشداً، لا تابعاً.

وهكذا فإن اللحظة الراهنة ليست مجرد فرصة، بل هي امتحان، حيث يواجه المثقف الكردي خياراً حاسماً: إما أن يظل تابعاً محكوماً بمنافع صغيرة، أو أن يستعيد دوره شريكاً في صياغة المستقبل. ولهذا كله، فإن استعادة الدور لا تعني عداء، بل تعني شراكة حقيقية، إذ إن النقد حين يكون بصيرة، والفكر حين يكون مشاركة، لا يعود السياسي قادراً على إقصاء الكلمة الحرة.

من هنا فإن العودة إلى دور المثقف ليست ترفاً، بل حاجة أساسية، كي لا يُعاد إنتاج العطب ذاته الذي عصف بالثقافة، لاسيما بعد محطة 2011 وحتى اليوم.

إن العلاقة السليمة لا تقوم على التبعية، بل على التكامل، إذ ينهض السياسي في الإطار التنفيذي الذي يُدير شؤون الواقع، فيما يتحرك المثقف في الإطار التنويري الذي يمنح الفعل معناه ويصون اتجاهه. إنما حين ينقلب التوازن، فيتجاوز السياسي حدوده أو يتخلى المثقف عن دوره، تتفكك المعادلة ويُقصى العقل النقدي. من هنا فإن إعادة الاعتبار للمثقف لا تعني مصادرة السياسي، كما أن حضور السياسي لا ينبغي أن يلغي المثقف، بل إن كلاً منهما يكتمل بالآخر في دائرة تحفظ التوازن بين القرار والرؤية، بين التنفيذ والبصيرة، على أساس روح التكامل وتبادل الاحترام.

وبدهي أنه بعد سقوط النظام السوري في 8 كانون الأول (ديسمبر) 2024، فإن الحاجة تبدو أكبر إلى المثقف الكردي، إذ لم يعد السياسي قادراً على الاحتماء بشعارات المواجهة وحدها، ولا على تسويغ التبعية بذريعة الظروف. حيث يفرض الواقع الجديد أن يكون المثقف في موقع الشريك الذي يضيء مسارات البناء، لا في موقع الزينة التي ترافق الخطابات. إنما المستقبل لا يمكن أن يُصاغ بقرار سياسي مجرد، بل يحتاج إلى عقل نقدي، إلى رؤية تُبنى على الحفر في الذاكرة، وعلى قراءة الأخطاء التي ارتُكبت. من هنا فإن المثقف الكردي مطالب بأن يخرج من القوقعة التي وُضع فيها، وأن يتجاوز دور المراقب إلى دور الفاعل، حيث تكون الكلمة مرشداً، لا ملحقاً، وتكون الثقافة سلطة موازية تحفظ التوازن وتمنع الانحراف.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.