: آخر تحديث

‏بزوغ مدرسة جديدة في العلاقات الدولية

9
8
8

‏‏شهد حقل العلاقات الدولية خلال القرن العشرين صراعًا بين مدارس كبرى: الواقعية التي رأت العالم ميدان صراعٍ على القوة، الليبرالية التي أولت المؤسسات والتعاون مكانة محورية، والبنائية التي أبرزت دور الأفكار والهويات والمعايير. وعلى الرغم من اختلاف هذه المدارس، فإنها اشتركت في كونها صيغت داخل سياقات غربية محددة، استجابت لتجارب الحرب الباردة، الاستعمار وما بعده، والعولمة في مراحلها الأولى.

‏اليوم، يبدو أن النظام الدولي يتّجه نحو منعطف جديد، حيث لم تعد تلك المدارس كافية لتفسير تحولات القوة، ولا لتأطير ديناميات التفاعل بين الدول والفاعلين غير الدولتيين. ثمة ملامح لبزوغ مدرسة جديدة في العلاقات الدولية، مدرسة لا تنقض ما سبقها بالكامل، بل تستوعب بعض أدواته وتدمجه في إطار ديناميكي أوسع.

‏ملامح المدرسة الجديدة

‏أول ما يميز هذا الاتجاه الجديد هو إعادة تعريف مفهوم السيادة. فبينما ركزت الواقعية على السيادة المطلقة للدولة، والليبرالية على تقييدها بالمؤسسات، فإن هذا المنظور الجديد يتحدث عن سيادة تكيفية؛ قدرة الدولة على حماية استقلالها الداخلي وفي الوقت نفسه الانفتاح على التفاعلات العابرة للحدود بما يحقق مصالحها.

‏ثانيًا، يظهر مفهوم القوة المركّبة. فالتمييز التقليدي بين القوة الصلبة (عسكرية–أمنية) والقوة الناعمة (ثقافية–قيمية) لم يعد كافيًا. المدرسة الجديدة ترى القوة مزيجًا متكاملًا يشمل: الردع العسكري، التأثير الاقتصادي، الجاذبية الثقافية، والريادة التكنولوجية. بهذا المعنى، لم تعد الدولة مضطرة إلى الاختيار بين الردع والإقناع، بل باتت تبني معادلة مركبة تستوعب الأدوات كافة.

‏ثالثًا، هناك تصور جديد لـ التوازن الدولي. بدل “توازن القوى” التقليدي، يُطرح مفهوم التوازن الديناميكي؛ أي توازن متغير عبر الزمن، يخضع لإيقاع المرونة والواقعية في آن واحد. فلا التوازن ثابت، ولا هو مجرد لحظة تقاطع في القوة العسكرية، بل هو عملية مستمرة من إعادة الضبط.

‏الحوكمة العالمية والهوية

‏المدرسة الناشئة تتبنى كذلك مفهوم الحوكمة العالمية المرنة. فالمؤسسات الدولية لم تعد كيانات جامدة تُفرض من الخارج، بل منصات يمكن إعادة تشكيلها بما يتناسب مع تحولات الاقتصاد والسياسة والتكنولوجيا. بهذا، تصبح القواعد الدولية قابلة لإعادة التفاوض وليس مجرد إطار مفروض.

‏إلى جانب ذلك، يتضح الدور المتنامي للهوية كعنصر قوة. الهوية–التنمية لم تعد مسألة داخلية بحتة، بل صارت مصدرًا للتأثير في النظام الدولي. فحين تصوغ دولة ما نموذجًا للتنمية ينسجم مع هويتها الثقافية والاجتماعية، فإنها تقدم نفسها للعالم كمرجعية حضارية–اقتصادية، وتضيف بعدًا جديدًا لفعلها الخارجي.

‏نحو مدرسة ديناميكية

‏يمكن تلخيص أركان هذه المدرسة الجديدة في خمس نظريات فرعية:
‏1.نظرية السيادة التكيفية: الجمع بين الحماية الداخلية والانفتاح الخارجي.
‏2.نظرية القوة المركبة: دمج الصلبة والناعمة والاقتصادية والتكنولوجية.
‏3.نظرية التوازن الديناميكي: إعادة ضبط التوازن عبر الزمن بمرونة وواقعية.
‏4.نظرية الحوكمة العالمية المرنة: إعادة تشكيل المؤسسات والقواعد بدل الجمود داخلها.
‏5.نظرية الهوية–التنمية: جعل الهوية الوطنية قاعدة للتنمية ورافعة للتأثير الدولي.

‏العالم مقبل على مرحلة قد يُصاغ فيها إطار تنظيري جديد للعلاقات الدولية. هذا الإطار لا ينفي المدارس السابقة، بل يستوعبها داخل رؤية ديناميكية قادرة على التكيف مع بيئة دولية شديدة السيولة والتغير.

‏قد لا يكون من المبكر القول إننا نشهد بزوغ مدرسة جديدة ستفرض نفسها تدريجيًا على الحقل الأكاديمي، مثلما فعلت الواقعية في أعقاب الحرب العالمية الثانية، والليبرالية بعد انتهاء الحرب الباردة. إنها مدرسة المرونة والواقعية المركّبة، مدرسة قد تعيد تعريف حدود القوة والفاعلين والمجالات في النظام الدولي لعقود قادمة.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.