هل كُتب على الشرق الأوسط أن يظل رهينةً لصراعٍ لا يعرف نهايةً بين قوتين تتقاسمان الجغرافيا والتاريخ؟ في الحقيقة، يبدو أن التنافس التركي–الإيراني ليس مجرد فصل من فصول الماضي، بل هو رواية طويلة تمتد من ساحات "جالديران" في القرن السادس عشر إلى خرائب منطقة الهلال الخصيب في القرن الحادي والعشرين. واللافت أن شبح الماضي يطلّ اليوم برأسه ليؤكد أن الصراع بين "العثماني والصفوي" ما زال يحكم معادلات المنطقة، حتى لو تغيّرت الأسماء واللاعبون.
في الواقع، يظلّ الهلال الخصيب الساحة الأكثر حساسية في ميزان القوى التركي–الإيراني؛ فالعثمانيون وجدوا منذ قرون في التركيبة الديمغرافية السنيّة العربية التي حكموها بالخازوق والنار قوة دفع تعزّز نفوذهم وتُحبط مساعي الفرس الصفويين، بينما اعتمدت إيران الصفوية عبر التاريخ على الأقلية الشيعية، التي تُخدع بشعاراتها الطائفية وتُساق للموت كرافعة لمدّ النفوذ. اليوم، يتكرّر المشهد ذاته؛ فتركيا تنظر إلى مستعمراتها القديمة في الهلال الخصيب كامتداد استراتيجي طبيعي لأمنها القومي، وترفض أي تهديد لمحيطها الجنوبي، وتعتبر أن نفوذ إيران هناك خط أحمر لا يقبل المساومة.
إنّ التفوّق التركي في الهلال الخصيب لا يقوم فقط على عامل العدد، بل على حقيقة أنّ العمق السني يمدّ أنقرة بقدرة ناعمة تتجاوز حدود القوة العسكرية. ولهذا، ترى تركيا أن التحدي الإيراني ليس مجرد منافسة إقليمية، بل تهديد مباشر لهويتها وأمنها القومي.
أعتقد أن المتابع للسياسات التركية يُدرك أن أنقرة لا تتسامح مع أي مشروع يطوّقها جنوبًا؛ فإيران بالنسبة للأتراك "العدو التاريخي" الذي لم يغب عن ذاكرة القادة والساسة. أما التدخل في دول الهلال الخصيب، والاقتراب من دول الخليج، فليسا خيارين طارئين، بل خطوات محسوبة في إطار الدفاع عن العمق الاستراتيجي. هذا العمق يشبه في الوعي التركي الرئة التي لا يمكن التفريط بها. وهنا يبرز السؤال: هل تقبل تركيا أن يُزاحمها النفوذ الإيراني في حديقتها الخلفية؟ الجواب واضح؛ فالتاريخ كلّه يقول لا.
في هذا السياق، تبدو كلمات السفير توم باراك كأنها نبوءة حين قال إن دول الشرق الأوسط أنشأتها معاهدة سايكس بيكو، وإن الحس الوطني فيها ضعيف. هذه الحقيقة المؤلمة تفسّر لماذا يعود الانتماء إلى القبيلة والطائفة والعشيرة بدلًا من الدولة؛ فغياب العدالة فتح الباب أمام إحياء ولاءات قديمة، حتى إنّ البعض يتطلّع إلى عودة السلطان العثماني بديلًا عن فراغ الدولة الوطنية. بلا شك، هذا الفراغ هو الذي سمح لإيران بالتمدد، وهو ذاته الذي جعل تركيا تظهر مجددًا في صورة "السلطان الحامي" من المشروع الشيعي. إنها مفارقة الشرق الأوسط بين حلم السلطان وكابوس الولي الفقيه.
في الحقيقة، ما يمنح تركيا وزنًا إضافيًا هو موقعها في الاستراتيجية الغربية؛ فمنذ أيام الخلافة العثمانية، كانت أنقرة الجدار الفاصل أمام الأطماع الروسية. واليوم، رغم الخلافات السياسية مع أوروبا والولايات المتحدة، يدرك الغرب أن تركيا تظل خط الدفاع الأول في مواجهة موسكو. هذا الإدراك يمنح أنقرة ورقة قوة إضافية في صراعها مع إيران؛ فهي ليست مجرد قوة إقليمية، بل حائط استراتيجي لا غنى عنه في الحسابات الأطلسية. ولذلك، نجد أن واشنطن وبروكسل، مهما احتدّ الخلاف مع أردوغان، تحرصان على عدم خسارة تركيا، لأن خسارتها تعني فتح الأبواب لروسيا شرق المتوسط.
بلا شك، ليس من قبيل المصادفة أن يشيد الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب علنًا بقدرة أنقرة على تغيير موازين الجيوسياسة في المنطقة العربية، مؤكدًا أن تركيا تمتلك نفوذًا يصعب تجاوزه، وأن جهازها الاستخباري يتمتّع بمهارة وذكاء لافتين، مكّنَاها من فرض حضورها في الساحات الإقليمية الأكثر تعقيدًا. إنّ هذه الشهادة، والتي جاءت من رئيس القوة العظمى، تعكس حقيقة تدركها العواصم الغربية: تركيا لاعب لا يمكن الاستغناء عنه.
لكن علينا، في المقابل، عدم إغفال أن إيران تواصل مشروعها المذهبي منذ الثورة عام 1979؛ فهي تعتمد على أذرع ميليشياوية في العراق وسوريا ولبنان واليمن، وتستخدم خطاب "المقاومة" ضد إسرائيل كغطاء لتمدّدها. وفي الحقيقة، يلتقي هذا المشروع مع تراث صفوي قديم، يعيد إنتاج الصراع نفسه بين الهلال الشيعي والهلال السني. إنه صراع هويّات قبل أن يكون صراعًا جيوسياسيًا. ومهما حاولت طهران تلميع خطابها، فإنّ الحقيقة التي يدركها الشارع العربي هي أن إيران قوة مذهبية تتاجر بشعارات بالية، تغذي بها مخيلة أتباعها، لكنها في الجوهر تسعى لفرض وصاية فارسية جديدة.
يرى المراقبون أن عبارة توم باراك "السلام في الشرق الأوسط مجرد وهم" تختصر مأساة المنطقة؛ ففي الحقيقة، الشرق الأوسط لم يعرف سلامًا دائمًا، بل ترتيبات مؤقتة تنهار عند أول اختبار. والسبب بسيط: طرف يريد الهيمنة، وطرف آخر يُدفع إلى الخضوع. ما بين هذا وذاك، تظل الشعوب العربية الخاسر الأكبر، تبحث عن عدالة غائبة، وعن هوية وطنية ضائعة، فلا تجد سوى ملاذ القبيلة والطائفة والذاكرة التاريخية. وهنا تتجدد المأساة: البعض يتطلّع إلى ظل السلطان التركي، والبعض الآخر يرضخ لهيمنة الولي الإيراني، بينما الدولة الوطنية غائبة، والسلام وهم، والسيطرة هي الغاية الكبرى.
في المحصلة، أعتقد أن التنافس التركي–الإيراني لم ولن ينتهِ، لأنه في عمقه صراع وجودي؛ فتركيا العلمانية تستند إلى تفوق ديمغرافي واستراتيجي، وتراث ديني يُستخدم كأداة طاعة، وإلى دعم غربي يعترف بدورها، وتحظى بإشادة حتى من قادة أميركيين لقدرتها على قلب التوازنات الجيوسياسية، بينما إيران الثيوقراطية تفتقر إلى الصديق والحليف في المنطقة العربية، وتراهن على مخلفات الماضي وسردياته، وعلى ميليشيات مذهبية تحاول اختراق الجسد العربي. وبين هذا وذاك، يبقى الشرق الأوسط رهينة لصراع تاريخي لم ينطفئ، صراع يؤكد أن من يطلب السلام هنا، كمن يطلب سرابًا في صحراء عطشى؛ فالسلام في هذه المنطقة ليس سوى وهم، والسيطرة وحدها هي الحقيقة.