طالما أن "طبخة" خطة معالجة أزمة غزة تمت بين طرفين لا يُعنى أي منهما بشكل أصيل بالمصلحة الوطنية الفلسطينية، فمن الطبيعي أن يكون مضمونها العام أقرب إلى تلبية متطلبات الطرف الأقوى. هذا التهميش الصارخ للقيادة الفلسطينية، ممثلة في السلطة، بل وحتى الغياب الملحوظ للطرف العربي الفاعل عن مائدة صياغة البنود، يُلقي بظلال كثيفة من الشك على نوايا ومرتكزات الخطة المعلنة، ويجعل الحكم بفشلها على المدى الطويل استنتاجاً منطقياً قبل البدء في تفاصيلها.
هنا يجب التوقف عند حقيقة تاريخية أشار إليها الدكتور خالد الدخيل وهو أستاذ علوم سياسية ومحلل سياسي: منذ عام 1948 لم تتقدم إسرائيل بمبادرة سلام واحدة، بل رفضت كل مبادرات السلام العربية الجماعية التي تبنتها القمم العربية. هذه الحقيقة تكشف تناقضاً صارخاً؛ فبينما تبدو إسرائيل الأكثر حاجة للسلام أمام محيطها العربي الكبير، يشي الواقع بعكس ذلك. إن تقديم مثل هذه الخطة، التي لا ترقى لمستوى مبادرات السلام العربية المرفوضة، يأتي ليؤكد أن إسرائيل لا تزال تضع أولوياتها في الاحتواء الأمني وليس في الحل السياسي الشامل.
ووفق ما اعلن، ظهرت تفاصيل خطة أمنية وسياسية واسعة النطاق لمرحلة ما بعد الحرب في غزة، ترسم مساراً معقداً يهدف إلى إطفاء نار الصراع مع الاحتفاظ بمصالح الأطراف الفاعلة. هذه الخطة، التي تركز على إنشاء قوة استقرار دولية مؤقتة (ISF) وفتح مسار نحو الدولة الفلسطينية مشروط، تمثل نموذجاً كلاسيكياً لـ "المكاسب المشروطة"، حيث تتشابك الإيجابيات الكبيرة مع التحديات الجوهرية. تكمن القوة الأبرز في الخطة في تركيزها على تحميل المسؤولية، فبدلاً من ترك السيطرة الأمنية في فراغ أو في يد الاحتلال، تقترح الخطة حلاً عملياً: قوة ISF مدعومة عربياً ودولياً لتتولى تدريب قوة شرطة فلسطينية مفحوصة، وهذا الترتيب يخدم هدفين حاسمين: يزيل مسؤولية الأمن المباشر عن كاهل إسرائيل (ويحقق الانسحاب)، ويضمن في الوقت نفسه أن القوة الجديدة لديها دعم لوجستي وخبرة إقليمية لتكون فعالة. كما أن تأكيد الخطة على عدم احتلال غزة أو ضمها يمثل نقطة انطلاق ضرورية، إلى جانب ربط إعادة الإعمار بضمانات إقليمية، مما يعطي الشرعية اللازمة للجهود الدولية ويعزز الأمل لدى الفلسطينيين.
لكن الخطة لا تخلو من منزلقات خطيرة، أبرزها يكمن في إخفاقها الأساسي في قراءة طبيعة الصراع ذاته. فبينما يتم التعامل مع الأزمة على أنها صراع إسرائيلي-حمساوي يمكن حله بترتيبات أمنية، يتجاهل هذا التناول أن القضية في جوهرها هي صراع إسرائيلي-فلسطيني وطني أوسع على الوجود والسيادة. هذا التهميش للمحور الوطني يظهر بوضوح في إبعاد السلطة الفلسطينية عن مركز القرار، حيث تتحدث الخطة عن "مشاركة محدودة" لها، وتخضع دورها المستقبلي لشروط "تنفيذ برنامج الإصلاح بأمانة"؛ وهو ما يضعها في موقع ضعيف يجعلها تبدو كـ "وكيل أمني" للترتيبات الدولية وليس كقائد وطني يستمد شرعيته من شعبه. هذا التهميش الاستراتيجي سيضعف الخطة حتماً، إذ يقوض الشرعية السياسية المطلوبة لأي حوكمة مستدامة ويُكرّس الانقسام بين غزة والضفة، مبعداً آمال قيام الدولة الموحدة.
يضاف إلى هذا، معضلة حماس التي يُبنى المقترح على إقصائها التام، مما يزيد من احتمالية الصراع الأهلي إذا رفضت الحركة المقترح. كما يثير شرط الإبقاء على "محيط أمني" إسرائيلي حتى "التأمين الكامل" تخوفات عميقة، حيث يمكن أن يتحول هذا المحيط إلى احتلال دائم أو سيطرة سيادية فعلية على الأرض، مقوضاً مبدأ الانسحاب ومولداً للاحتكاك المستمر. إن الخطة المقترحة تفتح نافذة للفرصة، حيث تقدم لربط الإنهاء الفوري للعمليات العسكرية بأفق سياسي للدولة الفلسطينية، مدعوماً بضمانات دولية وعربية. ومع ذلك، فإن قابلية التنفيذ هي محك الخطة؛ فالتحدي ليس في بنودها، بل في كيفية الموازنة بين الحاجة الإسرائيلية للأمن وبين حق الفلسطينيين في السيادة غير المنقوصة. النجاح يتوقف على مدى قدرة الأطراف الدولية والعربية على الضغط لتصحيح هذا العيب الهيكلي، وضمان ألا يتحول الترتيب الأمني إلى أداة لإدارة النزاع بدلاً من حله الجذري.