شارك أحد أصدقاء فيسبوك على صفحته إحدى مقالات "في الممنوع" للأستاذ الصحفي الراحل مجدي مهنا، وكانت في شأن "الكراكيب"، ولما كان من عادتي التثبت من المنقول قبل أن أُعرض له بقبول أو رد أو تعقيب، فقد سألت صديقي عن مصدره فيها، فدلّني على صحيفة "المصري اليوم"، فراجعت سجل الصحيفة على موقعها فعثرت على المقالة واستوثقت منها، وقد نُشرت في العدد 931 بتاريخ الأول من شباط (فبراير) لعام 2007، وقد كتبها الأستاذ لائمًا وعائبًا على المصريين ما يراه من حفاوتهم "بالكراكيب"، وذكر من تلك "الكراكيب" أمورًا، منها: الإكثار من التشريعات المعيقة للعدالة، فهذه عدّها من الكراكيب الواجب التخفف منها، وذلك لا ننازعه فيه، وعاب على الحكومة معالجة شؤون الناس بالمسكنات لا بالحسم، فتتراكم عندئذ كربات الشعب وضوائقه، ثم تتعقد، فتصير "كراكيب" فوق "كراكيب" يعسر حل عقدها في مستقبل الزمان، وهذا كذلك لا ننازعه فيه.
وكان من جملة ما توهّمه الأستاذ مجدي من "الكراكيب"، وأدخله في جمهرتها: إسقاط المتاع، وقصاصات الأوراق مما يُظن أنه زهيد القيمة، عديم النفع، كذلك فقد عدّ من جملة هذه "الكراكيب" آحاد الناس من الثقلاء المزعجين الذين لا يُسَرّ بهم جليسهم؛ فهذه الصنوف جميعًا رأى الأستاذ مجدي مهنا أن علينا نبذهم، وطرحهم، وإخراجهم من بين أظهرنا.
والمقال إن أنت قرأته بعين عقلك، ووزنته بميزان النفع العاجل المحض، لوجدته نافعًا حكيمًا يبغي لك الخير، وينفي عنك فضول الناس والمتاع، وربما أُخذت بالمقال بعد قراءتك إياه فعمدت إلى قديم وريقاتك، وتليد متاعك، فعزلت منه ما ظننت أنك مستغنٍ عنه، ثم طرحته أو أحرقته! وربما صادف المقال شحناء في نفسك كنت تخفيها، فأخرجت هاتفك فراجعت ثبت الأسماء فيه، وأسقطت منه أرقام من تعرف من الثقلاء والبغضاء والمزعجين.
والأستاذ مجدي مصري لا شك في مصريته، لكن أظنه قد غلّب حكم العقل المحض، فغاب عنه فقه المصريين في شأن "كراكيبهم"، وهو فقه ليس يحسنه أو يفطن إليه إلا مصري غابر القدم، بعيد الزمن، تليد الأثر، وهذا المصري العتيق ليس يرى في "كراكيبه" قمامات، ولا أسقاط متاع، ولا لدائن نفطية يقذفها ليعاد تدويرها، بل يراها بعين غير تلك.
فبعض "كراكيب" المصري يدخرها ذخرًا ربما ولعله وعساه أن يحتاجها وقت (عوزة)، فتراه يجمع فوق خزانته، وأسفل سريره، وفي أدراج مكتبه أكوامًا وأكداسًا من قطع الخشب، والحديد، والمسامير، والبراغي، وريشات مروحة، وخرطوم غسالة، ومكثف ثلاجة، وكل ما يظن أنه ربما سيحتاجه يومًا ما، ويشفق من غلاء ثمنه حينها فهو يدخره، وربما الرجل لن يحتاج أكثرها طول عمره، لكنه يضن بذخائره تلك مخافة عوادي الزمن التي جربها دهورًا متباعدة، وحقبًا متطاولة.
وقسم آخر من أهل "الكراكيب" هم أهل الماضي والذكريات الخوالي، فهؤلاء قد جمعوا كل أو جلّ ماضي زمانهم في "كراكيبهم" تلك، ما بين صورة، وخطاب، ووريقة، وقارورة عطر، وكراسة مدرسة من زمن فات، وشظية مقذوف من حرب وضعت أوزارها، وساعة حبيب مضى وتركها تحصي الدقائق والثواني من بعده، ونظارة عزيز طال انتظاره، وهاتف قديم من البيت الكبير، ومذياع كبير من الزمن الأول، وهؤلاء يضنون "بكراكيبهم" أن تبتذلها الأيدي، أو تنال منها الأعين، أو تتلفها يد الزمان، فتراهم يتخذون لها المخابئ في بطون الحقائب، وأجواف الصناديق، وأغوار الخزائن فيستودعونها إياها، فإذا أحرق الحنين قلوبهم هرعوا إلى "كراكيبهم" تلك فأخرجوها يتفقدونها، ويتصفحونها، ويستلمونها بأيديهم، ويشمونها بأنوفهم، ويحدثون جليسهم بخبر كل قطعة منها، وربما حدثوا "كراكيبهم" تلك بما أحدث الزمان بهم بعدها، ثم يسرعون بردها إلى مخابئها بعد أن أخذوا بحظهم منها.
ومصريون آخرون يرون أن "كراكيبهم" متحفية معتقة الجمال! وليس هذا بعجيب على شعب عتيق القدم، متصل الحضارة لما فوق الخمسة آلاف عام، فهؤلاء "كراكيب" السطوح عندهم، والمهملات في الأركان والزوايا في بيوتهم هي نفائس متحفية علمها من علمها، وجهلها من جهلها، وهل كانت خبيئات القدماء إلا "كراكيب" مثل تلك؟! ولتعلم صدقي فيما أزعم من أن "كراكيبنا" قطع متحفية، هلمّ فأنزل صندوقك القديم من فوق خزانتك، ثم استخرج منه هذا الإبريق الذي ورثته أمك عن جدتك وقد جاوز اليوم عمره المائة عام، ثم املأ منه عينيك وكفيك، وانظر إلى ثخانة معدنه، واستواء أجزائه، وانظر إلى تلك الغيمة المطيرة المنقوشة على ظهره نقشًا بإبرة يد صانعه، أليس هذا قطعة متحفية؟! وهذا المفرش الذي جاء عمتك في جهازها هدية عن جدتها، انظر إلى نضرة لونه التي لم تنصل ولم تتحول على مر الزمن، بل انظر إلى اليد الصنّاع التي طرّزته ووشّته بالزهر والشجر والثمر، إن شهي فوحه يكاد يبلغ أنفك، وإن يانع ثمره يكاد أن يقع في يدك، فهل ترى أن هذا الإبريق وهذا المفرش من "الكراكيب" التي يحسن إلقاؤها لفراغ الحاجة منها؟! أم إن مثلها تنعقد له المعارض، وتقام عليه المتاحف، ويحتفى به؟!
إن هذه "الكراكيب" اليدوية المتحفية وإن لم تبلغ تقانة ما صنعته آلة الحداثة، إلا أن (يدويتها) تلك (حسن غير مجلوب) كما زعم المتنبي –وهو أعلم– في جمال البدويات، فهذا الجمال اليدوي يجعلها أقرب بشرية إلى البشر، وأمسّ آدمية بنفوس الآدميين، فترى القوم من شرق وغرب مفتونين بهذا الجمال المعتق، معرضين عما سواه!
أمَّا قصاصة الورق أو الصورة التي نسيها جدك أو أبوك في صحيفة أو حقيبة أو دفتر، فهي أولًا جمال متحفي لمن يقدّر القديم العتيق، غير أنك لو استنطقتها وأحسنت الإنصات إليها لتحصلت منها على بيان شافٍ بوقائع الدنيا وأحداث الزمان، فهذان السطران من الجريدة القديمة قد تجد فيهما تأريخًا لموقعة منسية، أو تدوينًا لحادثة غائبة، أو ترجمة إنسان انقطع ذكره، أما تلك الصورة ذات الغبش والنمش والعتامة، فإنك لو أمعنت النظر إليها وتقصيت شخوصها وديارها لأخبرتك بمعالم حيّك وما بقي منها وما تبدل، ولأنبأتك بأحوال أهله وهيئاتهم ومعيشتهم قبل زمن، وربما كانت هذه القصاصة أو الصورة هي وثيقة سعدك فأثبتت لك أملاكًا لم تكن تدري بها، أو كنت تدري بها ولا إثبات لها تحت يدك! فمثل هذه القصاصات والوريقات ليست (نفايات) لكنها (إجابات) عن من، وكيف، ومتى، وأين، وكافة أدوات الاستفهام، لمن عكف على تمحيصها وتحقيقها، فهي نفائس فيها الجمال، وفيها الخبر، وفيها التوثيق.
أما ما ذكره الأستاذ مجدي مهنا من أن يعامل الإنسان المزعجين والثقلاء ومن لا يُسَرّ به كمعاملته "الكراكيب"، فيسقطهم من عشرته، ويقطعهم من خلطته! فكأني بالأستاذ غفل أن المصريين هم أهل مقولة: "اصبر على جار السوّ يا يرحل يا تيجي مصيبة تاخده"، وعندنا أن: "الجار للجار ولو جار"، و"ضرب الحبيب ولا أكل الزبيب"، وفي الدين الصبر على مخالطة الناس واحتمال أذاهم له درجته، فهل ترى هذا شعب يقطع صلته بالناس، بينما إيمانه وأمثاله تأمرانه بغير هذا؟!
إن شعبًا مثلنا "كراكيبه" قطع متحفية ليس يسيرًا عليه أن يلقيها على أكوام النفايات، بل أفضل من ذلك لو يكون في كل بيت خزانة كبيرة أو صغيرة ذات أرفف وأقسام فيجمع فيها كل رب أسرة مقتنياته ومقتنيات أسرته، فإنها التاريخ لمن أراد التاريخ، وهي الوثيقة لمن احتاج الحجة والدليل، وهي الذكرى لمن شاقته السنون إلى زمان انقضى، وحبيب مضى، وهي الجمال للمتأنق المستطرف، فاقدروا "لكراكيبكم" قدرها.