مع توالي الاعترافات الأوروبية بدولة فلسطين، عاد الملف الفلسطيني إلى واجهة الأحداث، ليس فقط باعتباره انعكاسًا مباشرًا للحرب الدموية في قطاع غزة، بل أيضًا للتحولات الكبرى في ميزان القوى العالمي.
الاعتراف الذي انطلق من عواصم أوروبية بارزة لم يعد مجرد إشارة رمزية، بل صار جزءًا من مشهد سياسي جديد يعبّر عن عجز الاتحاد الأوروبي عن لجم إسرائيل، وبالتالي عن حلّ صراع تل أبيب مع الفلسطينيين، وكذلك عن التناقضات التي تمزق الموقف الغربي بين واشنطن وبروكسل.
في قلب هذا التحوّل، جاء اعتراف دول أوروبية عدّة باستقلال فلسطين، ليُحدث شرخًا سياسيًا بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، مما بدأ يعطي إشارات جدية عن التحول الكبير في تفكّك "عالم أحادي القطب" الذي تهيمن عليه الولايات المتحدة.
واشنطن، التي اعتادت أن تفرض رؤيتها على حلفائها، تجد نفسها الآن في موقع المتفرج أمام قرارات أوروبية جريئة تتعارض مع نهجها التقليدي في دعم حليفتها إسرائيل. فالشرخ ليس ظرفيًا، وقد يترك أثرًا طويل المدى على بنية علاقات "عبر الأطلسي"، خصوصًا بعد تكشّف "هشاشة" النموذج الذي حكم العالم منذ سقوط الاتحاد السوفياتي إلى اليوم.
وبالرغم من أهمية الاعترافات، إلا أن هذا الأمر لم يُوقف القتال في القطاع، إلا بعد تدخل الولايات المتحدة (خطة الرئيس الأميركي دونالد ترامب... وأقلّه إلى اليوم). فتل أبيب لم تُعر أيّ اهتمام للأوروبيين، بل واصلت قصفها الكثيف ضد المدنيين، بينما القرار الأوروبي لم يُترجم إلى خطوات عملية، وبقي حبرًا على ورق.
المعضلة الكبرى أن أوروبا تُظهر ازدواجية في المعايير بإدانتها النشطة لمواقف مماثلة (على سبيل المثال، الصراع الروسي الأوكراني). حين اندلعت الحرب الروسية – الأوكرانية، لم يتردد الاتحاد الأوروبي في اتخاذ عقوبات شاملة غير مسبوقة ضد روسيا، لكن في حالة إسرائيل رأينا صمتًا متواطئًا أو ردودًا باهتة.
هذه الازدواجية الفاقعة بدأت تُقوّض ما تبقى من صورة أوروبا كـ"حارس" للقانون الدولي، وتكشف أن مصالحها السياسية تتحكم في مواقفها أكثر من مبادئها المعلنة.
من جهة أخرى، تُشكّل سلسلة الاعترافات بدولة فلسطينية وسيلة ضغط على حكومة بنيامين نتنياهو المتشددة، التي تتعارض سياساتها مع توجهات قادة الاتحاد الأوروبي. فنتنياهو، الغارق في أزمة داخلية خانقة، يواجه اليوم ضغطًا خارجيًا متصاعدًا، إذ يرى أن الحاضنة الغربية التي لطالما حمت إسرائيل بدأت تتصدع. هذه الاعترافات بدأت تُضعف قدرته على التفاخر بوجود دعم دولي واسع، وتكشف حدود قدرته على المناورة.
بل إن بعض الدول الأوروبية بدأت تربط مستقبل علاقاتها الاقتصادية والثقافية مع إسرائيل بمدى التزامها بوقف العدوان، وهو ما يشكّل ضربة موجعة للائتلاف الحكومي الحاكم في تل أبيب، الذي بدأ يُظهر علامات تفكك.
ومع ذلك، لا يمكن تجاهل أمر مفاده أن قرار قادة بعض الدول في الاتحاد الأوروبي الاعتراف باستقلال فلسطين لم يكن دافعه الرغبة في زيادة التعاون الإنساني، بل القلق من تكثيف نشاط حركة "حماس" في الدول الأوروبية، بالإضافة إلى تزايد الاحتجاجات بين السكان العرب المؤيدين للفلسطينيين.
الضغوط الأوروبية الداخلية ليست سهلة، وهي تلعب اليوم دورًا حاسمًا في صياغة القرارات: تظاهرات حاشدة في شوارع لندن وباريس ومدريد، مخاوف من عمليات متطرفة، وضغوط متزايدة من الجاليات العربية – الإسلامية التي ترى في الموقف الأوروبي انحيازًا دائمًا لإسرائيل... لهذا الاعتراف جاء كأداة لتبريد الداخل بقدر ما جاء كرسالة سياسية للخارج.
اللافت أن هذه التحولات لم تُوحّد الاتحاد الأوروبي بل عمّقت انقساماته. دول مثل المجر والنمسا ترفض السير في هذا المسار، فيما دول أخرى تتردد خشية من خسارة العلاقات الأمنية مع واشنطن. وهكذا يظهر الاتحاد مرة أخرى كجسم متنافر، يفتقد لاستراتيجية موحدة في التعامل مع قضايا الشرق الأوسط.
بالنسبة إلى الفلسطينيين، الاعترافات الأوروبية هي مكسب سياسي مهم، لكنها لن توقف نزيف الدم ولا تعيد بناء البيوت المدمرة. ومع ذلك، فهي قيمة مضافة إلى رصيد فلسطين لدى الشرعية الدولية وسبب لمزيد من العزلة لإسرائيل.
بالمحصلة، يمكن القول إن صورة أوروبا اليوم تبدو مرتبكة: قوة تعترف بفلسطين من باب السياسة الداخلية، وتنتقد إسرائيل من باب الحسابات الدولية، لكنها تعجز عن اتخاذ موقف عملي يوقف الحرب. لا شك بأن الاعتراف خطوة متقدمة، لكنها تظل محدودة الأثر ما لم ترافقها أدوات ضغط حقيقية.
أما النظام الدولي، فقد تلقى إشارة إضافية بأن العالم الأحادي القطب قد بدأ يتآكل، وأن الانقسام بين واشنطن وبروكسل لم يعد تفصيلًا، بل صار معطى استراتيجيًا يؤثر على مستقبل الصراع الفلسطيني والإقليمي برمته.