في كل أمَّة، لحظة فارقة يتواجه فيها العقل مع الجدار، والحرية مع السقف الواطئ، والذاكرة مع النسيان المتعمّد. ولعلّ ما كتبه الأكاديمي السوري محمد مرعي على صفحته في فيسبوك لم يكن مجرّد شكوى شخصية، بل تجلّياً عارياً لحقيقة عميقة: إن الوطن الذي يطرد عقولَه، إنما يبني سجناً من طوب الكلام، ويترك نوافذه مفتوحة لرياح الخراب.
مرعي، الذي قضى أكثر من ثلاثة عقود في جامعة دمشق ومراكزها البحثية، لم يطلب مالاً ولا منصباً، بل عرض أن يعمل مجاناً، مشترطاً أن يُحوَّل راتبه الرمزي إلى صندوق إعادة الإعمار أو إلى أبناء الضحايا. أراد أن يقول إنَّ خدمة الوطن لا تُقاس بالأجر، وإن المعرفة حين تُسخَّر في سبيل الجماعة تصبح أرقى من كل وسام. لكن الجواب جاء بارداً: الرفض. رفض بلا تبرير، سوى أن استقلالية الرجل أثقل من مقاييس الولاء المطلوب.
ليست هذه الحكاية استثناءً في بلد أنهكته الحروب والانقسامات. فالمؤسسات التي يُفترض بها أن تكون حاضنة للكفاءات، تحوّلت إلى غربال يُسقط الأحرار ويُبقي المتزلفين. خلف الرفض يكمن تصوّر سلطوي قديم: إن العقل الحر أخطر من السلاح، وإن من لا يُصفّق يُصبح تهديداً محتملاً. لذلك يُكرَّم المطبّلون، ويُعاد إلى وظائفهم من كانوا يوماً أدوات في أجهزة الولاء، فيما يُقصى الباحثون وأصحاب التجارب الذين تركوا بصماتهم في جامعات العالم.
في هذا المشهد، يبدو أن سوريا المعاصرة تُبنى كما لو كانت مسرحاً معمارياً مقلوباً: أعمدة العلم تُزال، بينما تُرفع الجدران من الطين الرطب، لتُشيَّد قاعات من التصفيق وأروقة من الصمت. ليس الأمر مجرد سياسة تعليمية؛ إنه انعكاس لبنية حكم ترى في المعرفة خطراً على بقائها، وفي الاستقلالية عاراً يجب دفنه.
بين السطور التي كتبها مرعي، يمكن قراءة خيبة عميقة لا تخص فرداً بعينه. إنها خيبة جيل بأكمله. الأكاديمي، وهو يقف على حافة المنفى، لا يصرخ لأنه خسر وظيفة، بل لأنه يرى وطنه يخسر ذاته. لقد قضى سنواته في باريس وستراسبورغ وغازي عنتاب، نشر أبحاثاً وكتباً تجاوزت الثلاثين، شارك في مؤتمرات، علّم أجيالاً من الطلاب، وحين أراد أن يعيد بعض هذا الرصيد إلى مدينته الأولى، صدمه جدار الرفض!
هنا يظهر البعد النفسي للمنفى: المنفى ليس فقط أن يُنتزع المرء من أرضه، بل أن يُمنع من العودة بكرامة. المنفى يصبح إذن علاقة مشوّهة مع الذاكرة: ذاكرة مكان يُحبه لكنه يغلق الباب في وجهه، وذاكرة طلاب وزملاء يلوّح لهم من بعيد، لكن المسافة بينهم لم تعد جغرافية فحسب، بل سياسية وأخلاقية.
ليست هذه أول مرة يُقصى فيها العقل الحر في سوريا. منير شحود، أستاذ التشريح الذي حُرم من عمله بعد توقيعه على "إعلان دمشق"، كان مثالاً آخر. قبله، عشرات وربما مئات الأكاديميين الذين وجدوا أنفسهم خارج الجامعات، لأنهم لم ينسجموا مع خطاب السلطة. هذا النمط ليس جديداً في التاريخ: كل إمبراطورية استبدلت الكفاءة بالولاء انتهت إلى الوهن. فالإمبراطوريات الأندلسية حين أغلقت أبوابها في وجه الفلاسفة والعلماء بدأت بالانحدار، والدول الحديثة حين طردت مثقفيها لم تجنِ سوى الخراب.
إن ما يحدث اليوم في سوريا ليس سوى فصل آخر من كتاب مكتوب منذ عقود: وطن يُقصي العقول في اللحظة التي هو أحوج ما يكون إليها. كأن التاريخ يكرّر نفسه بإصرار، كأن البلاد لم تتعلم أن بناء المدن لا يتم بالحجارة فقط، بل بالعقل الذي يبتكر ويجدد.
من منظور اجتماعي، يُصبح إقصاء الأكاديميين جزءاً من هندسة واسعة لإنتاج الولاء. فالمؤسسات لا تختار الكفاءة، بل تختبر الطاعة. وفي هذا الامتحان، يفشل من يملك رأياً مستقلاً، وينجح من يردد ما يُملى عليه. النتيجة مجتمع مفكك، فيه أجيال من الطلاب يتخرجون دون أن يلتقوا بأساتذة حقيقيين، بل برجال ظلّ يكررون المقررات دون روح.
إن الخسارة هنا مزدوجة: الفرد يُهزم داخلياً، والوطن يخسر مستقبله. وحين يفتح الغرب أبوابه لهؤلاء العلماء، مانحاً إيّاهم مختبرات ومنحاً وأوسمة، يصبح المشهد أكثر مأساوية: الآخر يستثمر فيما نحن نرفضه، الآخر يبني بثمار عقولنا، ونحن نزيد في خرابنا عزلةً.
الجامعة في المخيال ليست مجرد مبنى من قاعات ومدرجات، بل هي مَعبد للمعرفة، فضاءٌ يتنفس فيه العقل الحر. لكن حين تُغلق أبوابها في وجه أساتذة بحجم محمد مرعي، فإنها تتحول إلى أطلال رمزية. الجدران التي ترفع شعارات النهضة تُخفي في باطنها خوفاً من الكلمة الحرة. كأن الجامعة لم تعد جامعة، بل جهازاً آخر من أجهزة الضبط، صارت شبيهة بثكنة، حيث المعيار ليس العلم، بل الطاعة.
في مثل هذا الفراغ، يصبح الطلاب أسرى مناهج متقادمة، ويُمنع عليهم أن يروا التجديد أو يختبروا النقد. فتخرج أجيال متشابهة، كأحجار طوب مصفوفة في جدار واحد، بلا ملامح ولا حيوية.
بعض المعلّقين على منشور مرعي اقترحوا حلولاً بديلة: تأسيس جامعات خاصة، أو أكاديميات مستقلة في المنفى. قد تبدو هذه الأفكار بديلاً جزئياً، لكنها لا تعالج الجذر العميق: أن العقل في الداخل لا يزال محاصراً. فالبلد لا يُبنى من الخارج فقط، ولا يمكن للمنفى أن يكون بديلاً دائماً عن الوطن. المشكلة أعمق: إنها بنية سياسية ترى في العقل تهديداً وفي الحرية خطراً وجودياً.
حين يكتب مرعي أن الخسارة ليست شخصية بل "خسارة وطن"، فهو يرسم لوحة تتجاوز ذاته. في هذه اللوحة نرى سوريا مثل بيت قديم، يتسرب منه الماء من الشقوق، فيما يصرّ ساكنوه على طلاء الجدران بالألوان الصاخبة ليخفوا الخراب. في الخارج، تمرّ العواصف وتنهار الأسقف، لكن الأصوات في الداخل تواصل التصفيق.
إنها لوحة مجتمع يتفتت لأنه لم يفهم أن المعمار الحقيقي يبدأ من الداخل، من إصلاح الأساسات لا من زخرفة الواجهات. والعقل الحر، الذي يُقصى الآن، هو في الحقيقة العمود الذي كان يمكن أن يحمل السقف.
في نهاية منشوره، ترك مرعي أسئلة معلقة: من يقرر؟ ومن يدرك قيمة الكفاءات؟ وهل يمكن لبلد أن ينهض وهو يشيح بوجهه عن أبنائه الأكثر علماً وخبرة؟
هذه الأسئلة ليست بلاغية فحسب، بل وجودية. إنها أسئلة وطن يبحث عن نفسه بين الركام، أسئلة جيل يفتش عن معنى للعودة، أسئلة جامعة لم تعد جامعة، بل شاهد حجر على زمن يرفض العقل ويكرّم الصدى.
ولعلَّ أعظم ما في هذه الحكاية أنها تضعنا أمام مرآة صادقة: إن مستقبل سوريا لن يُبنى بالخرسانة وحدها، بل بالعقول التي تُقصى اليوم. وإن كل رفض لأستاذ، كل إبعاد لمفكر، كل طرد لمستقل، إنما يُضيف حجراً جديداً في جدار الانهيار.
الوطن، في نهاية المطاف، ليس الأرض وحدها ولا الراية، بل هو العقول التي تُصرّ على أن تُضيء، حتى لو كان الجدار عالياً والنافذة ضيّقة.