خطة ترامب للسلام في غزة وما تضمنته من بنود أو محاور ثلاث: الأولى وقف الحرب وإطلاق سراح كل الأسرى الأحياء والأموات، وهي ورقة ضغط قوية في يد حماس، وبالمقابل ورقة ضغط على رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو. والمحور الثاني نزع سلاح حماس وكل الفصائل وعدم تهديد غزة لإسرائيل. والأخير الحديث عن السلام الدائم وطموح الشعب الفلسطيني بدولته. هذه الخطة، والتي جعلت من دونالد ترامب رئيسًا لمجلس السلام في غزة، تثير تساؤلات كثيرة وتستحضر عقدة غوردو المركبة وسيف الإسكندر المقدوني. والسؤال: هل يملك ترامب هذا السيف القادر على استئصال عُقد غزة المركبة؟
أذكر أولًا بأسطورة العقدة الغوردية كدلالة على وجود مشكلة صعبة ومعقدة ومركبة يتم حلها بطريقة جذرية أو بعمل جريء. وتحكي الأسطورة أن عرافة بمدينة تيلمبسوس، وهي عاصمة فرنجيا القديمة، تنبأت أن الرجل الذي سيدخل المدينة بعربة يجرها ثور سيصبح ملكًا، ويُدعى هذا الرجل غوردياس. وعرفانًا لذلك، قام ابنه بتقديم العربة إلى الإله الفرنجي سبازيزوس، وقام بربطها بعقد لا يظهر منها أي طرف للحبل. وعندما دخل الإسكندر الأكبر المقدوني عام 333 قبل الميلاد، حاول فك العقد فلم يجد طرف الحبل، فقام بقطعه بسيفه، فانفكت العقد. وهذا دلالة على حل المشكلة من جذورها.
وهذا حال مدينة غزة اليوم بعد حرب العامين التي عمّقت من عُقد هذه المدينة، الأصغر في العالم بأكبر كثافة سكانية؛ مليونان ونصف يعيشون على 340 كيلومترًا مربعًا. واليوم بعد الحرب يعيشون في الخيام وفي الهواء على مساحة لا تتجاوز المئة كيلومتر مربع. هذه الحرب التي أدت إلى استشهاد أكثر من سبعين ألفًا، جلهم من الأطفال والنساء والمسنين، ودمرت كل بنيتها ومساكنها ومستشفياتها ومدارسها وجامعاتها. وهي حرب تُوصف اليوم بالإبادة، ويتعرض سكانها للتهجير لتزيد عقدها، ولتتحول إلى كتلة من العقد.
وقبل الحديث عن سيف ترامب وخطته وقدرته على فك هذه العقد، نشير إلى هذه العقد. فهذه الحرب، والتي سبقتها أربعة حروب منذ سيطرة حماس على غزة عام 2007، لكن الحرب الحالية هي حرب غير مسبوقة في كل الحروب، وهي أقرب للحروب الإقليمية والكونية، تركت مشاكل وعقدًا وتحديات يصعب حلها بضربة سيف واحدة. مشاكل الدمار الشامل والإعمار وإعادة بناء غزة وعلى أسس ومقومات وقيم جديدة، ومشكلات تتعلق بتفكيك البنية الاجتماعية وفقدان الأسرة بفقدان عناصرها، ومشكلات تتعلق بالتعليم على كافة مستوياته وأي مناهج ستُعتمد، ومشكلات تتعلق بالبنية الصحية. والأهم مشكلة بقدرة الأرض الصغيرة المدمرة على استيعاب العدد الكبير والحديث عن الهجرة والنزوح. ومشكلة الحديث عن غزة التنموية المدنية وأي غزة؟ هل غزة الكينونة الجديدة المنفصلة عن هويتها الشاملة (فلسطين) وعلاقتها بالضفة الغربية وعلاقة الكل بالدولة الفلسطينية؟
إلى جانب هذه العقد، هناك مجموعة من العقد الأساسية التي تفرضها الخصائص الجيوسياسية والجغرافية لغزة وموقعها في قلب المنطقة كلها: أولًا، العقدة الأمنية لإسرائيل التي تقف وراء أحد أهم الأسباب لهذه الحرب. فغزة تقع في قلب الدائرة الأولى لأمن إسرائيل، وأي تغيرات في بنية القوة أو امتلاك السلاح تعتبره إسرائيل يشكل تهديدًا لها ويدفعها نحو الحرب. وهذا ما يفسر لنا الحروب الخمس التي عاشتها غزة منذ سيطرة حماس عام 2007، أضف إلى ذلك عقدة غزة وفصلها عن مكونها الفلسطيني. وهذا ليس مبررًا لحروب إسرائيل، فالعقدة الأساس كما سنرى تتمثل في الاحتلال وإنهائه ورفع الحصار.
والعقدة الثانية الرئيسة التي جسدتها غزة وكانت سببًا أيضًا للحروب، وخاصة الحرب الحالية، وهي عقدة الانقسام والانفصال بعيدًا عن الوحدة الفلسطينية، وإصرار حماس على بناء الكينونة الخاصة بها وفصل غزة. وهنا برزت إشكالية أو عقدة المواءمة بين المقاومة والحكم، والتي انتهت بالحرب الحالية وما زالت هذه العقدة تخيّم على مستقبل غزة، وعلى اليوم التالي: هل هو فلسطينيًا أم إدارة دولية جديدة؟ وعقدة الانقسام تتعلق بحل بنية وتفكيك الانقسام. وإلى جانب ذلك، هناك عقدة الحكم في غزة ومن يحكم غزة وأي حكم، وعقدة مدنية غزة التي تفرضها طبيعتها الجغرافية والسكانية، وعقدة علاقة غزة بمصر باعتبارها بوابة مصر الشرقية.
كل هذه العقد توضح مدى التحدي الذي تواجهه خطة ترامب للسلام، وهل يملك الرئيس ترامب القدرة والشجاعة لحمل سيف الإسكندر واستئصال العقدة الرئيسة من جذورها لتنفك كل العقد؟ وهنا مقاربة حل عقدة على حساب عقدة أخرى ليس هو الحل، وذلك كما يؤكد أنه لن يسمح بأن تشكل غزة تهديدًا لإسرائيل وأنه سيرفع العزلة عن إسرائيل. العقدة الرئيسة التي تنفك عنها كل العقد هي عقدة إنهاء الاحتلال وقيام الدولة الفلسطينية، ليس كطموح للشعب الفلسطيني بل كحق من حقوقه التاريخية. وهذا الأمر مشكوك فيه، لتبقى عقدة غزة المركبة بدون حل، مع سلام يتعامل مع القوة وليس الحقوق.