: آخر تحديث

غربة تلدُ الخيانة

1
1
0

هل غدت الخيانة الزوجية في حياة الزوجة العربية المقيمة في بلاد المهجر ظاهرة عادية لا تستوقف الضمير، ولا تستفز الغيرة، ولا تثير التساؤل؟

سؤال مرّ كالسهم في ضمير مجتمعٍ كانت تُعدّ فيه الخيانة يوماً وصمة عار، وموتاً بطيئاً للكرامة، فإذا بها اليوم تتسلل بهدوء خلف شاشات الهواتف الذكية، وتختبئ بين أروقة وسائل التواصل الاجتماعي التي صارت ـ بحق ـ كهمٍّ جاثمٍ على القلب.

لقد بدّل الهاتف المحمول ملامح العلاقات، وأعاد تشكيل الوجدان، فبعد أن كانت تلك الممارسات خفية تُرتكب في العتمة وتُحاط بالحياء والخوف، أصبحت تُمارس في العلن بوقاحة مدهشة، وكأن شيئاً لم يكن. نرى على واجهات الشاشات نساء يلمّعن صورتهن بطلاء زائف من الفضيلة، يتحدثن عن الخيانة أكثر مما يتحدثن عن الوفاء، ويتقنّ فن الاتهام أكثر مما يتقنّ فن الاحتواء. صرن يرمين أزواجهنّ بتهم لا دليل عليها سوى الفراغ، ويتناسين أن البيوت لا تُبنى بالشكوك، بل بالمودّة والرحمة.

نلتقي في الغربة بنماذج لنساءٍ لا يشغلهن من الحياة إلا تفاصيل سطحية: تنظيف، وطبخ، وتسوّق، وحديث فارغ في مجموعات إلكترونية لا تنتهي. وحين يختلي الليل بالهواتف، تبدأ الحكايات الخفية ـ رسائل سرّية، وأحاديث هامسة، وارتباطات عاطفية تُنسج في الظلّ. لقد سهّلت وسائل التواصل كل ما كان محرّماً أو صعب المنال، وفتحت أبواباً لم تكن تُطرق.

المؤلم أن بعض الزوجات يُظهرن العفّة والورع في العلن، ويتحدثن عن الشرف والطهارة، بينما تُخفي شاشات هواتفهن عالماً آخر يضجّ بالعلاقات المشبوهة، والتواصل المريب مع الغرباء. تتذرّع إحداهنّ بطلب الطلاق كلما وجدت فرصة، بالرغم من أنها تعيش حياة مستقرة يغمرها الحب والاحترام. ولكن يبدو أنّ بعض القلوب لا تطيق السكون، فتفتّش عن الإثارة ولو في حافة الخطيئة.

هؤلاء النسوة يبحثن عن "بارقة أمل" كما يزعمن، لكنّ الأمل الذي يطلبنه ليس سوى ذريعة للهروب. في الغربة، حيث تتسع الحرية وتضيع الحدود، تُغري النفسُ صاحبَها بالتمرّد، وتجد في الاختلاف الثقافي ذريعة لتبرير الانفلات الأخلاقي. فتختلق الزوجة الأسباب، وتحوّل تفاصيل صغيرة إلى معارك كبيرة، لتُقنع نفسها بأنّ الفراق خلاص، وأنّ الخيانة ممرّ إلى حياة جديدة.

أما الزوج المسكين، فيجد نفسه حارساً على قلبه، يتوجّس من نظرات زوجته، ويحسب أنفاسها، ويخشى أن يُتهم بجريرة لم يرتكبها. صار يعيش حالة من التيقظ الدائم، يضع يده تحت رأسه كمن يحرس كنزاً يخشى ضياعه، لكنه في الحقيقة يحرس ما تبقّى من احترامه لذاته.

وقد صار الدين عند بعض النساء كلماتٍ تُردّد في المناسبات، والضمير صوتاً خافتاً يُخرسه الإغراء، والمال مطمعاً يسهل بهنّ البيع والشراء في أقدس الروابط الإنسانية.

إنّ الحياة مع زوجةٍ كهذه تشبه السير في حقل ألغام؛ لا تدري متى تنفجر الكلمة، أو متى تنقلب المودة إلى عاصفة من الشتائم واللعنات. فالزوجة التي تستبدل الوفاء بالشكّ، والطمأنينة بالتذمّر، لا تترك لزوجها مجالاً إلا الصمت والانكسار. ومع ذلك، يظل يحاول، يُقدّر، ويصبر، ويمنحها ما استطاع من حبّ، لكنها تصرّ على هدم ما يبنيه، غير عابئة بما يتركه ذلك من ندوب في الروح.

الغاية الخفية لدى بعضهن هي الوصول إلى لحظة الخلاص من الزوج، بأي ثمن. فحين تمتلئ نفسها سخطاً، وتضيق ذرعاً بالمسؤولية، تبحث عن بديلٍ يُنصت أكثر، ويُغري أكثر، ويُشعرها بأنها ما زالت مرغوبة. وهنا تبدأ المأساة: تتحوّل الغربة إلى ساحة اختبار للقيم، ويصير الجسد وسيلة للهرب من الفراغ الداخلي، لا من قسوة الزوج كما تدّعي.

ولأنّ وسائل التواصل ألغت المسافات، صار بإمكانها أن تعيش أكثر من حياة في وقتٍ واحد: زوجة وفية أمام الناس، وعاشقة متمرّدة خلف الشاشة. وكلما ازداد الفراغ في داخلها، ازداد تعلقها بتلك الوجوه الافتراضية التي تمنحها ما تظنه اهتماماً، لكنه في الحقيقة مجرّد سرابٍ يبدّد ما تبقى من كرامتها.

كيف يمكن لجم هذه الفوضى الأخلاقية؟ وكيف يمكن استعادة المعنى الحقيقي للعلاقة الزوجية في زمنٍ أصبح فيه الخداع مهارة تُدرّس؟

إنّ أول ما يلزمنا هو الاعتراف بأنّ الخيانة ليست فعلاً عارضاً، بل عرضٌ لمرضٍ أعمق: فراغ نفسي، وضياع هوية، وتشوّه في مفهوم الحرية. إنّ الزوجة التي تبحث عن متعة عابرة إنما تهرب من ذاتها، من شعورها بالوحدة والضياع، لا من زوجٍ ظنّته سبباً لكل خيباتها. ولو تأملت قليلاً، لأدركت أن الانهيار يبدأ حين نسمح لأنفسنا بتبرير الخطأ باسم الحاجة أو الحرية أو الغربة.

في المقابل، لا يمكن إعفاء الرجل من مسؤوليته تماماً؛ فالكثير من الأزواج انشغلوا بأعمالهم، أو تبلّدوا عاطفياً، وتركوا فراغاً تسلّل منه الشكّ والتعب. لكنّ هذا لا يُبرّر أبداً الخيانة، لأن الوفاء مبدأ، لا صفقة متبادلة.

لقد صار واقع المرأة العربية في المهجر أكثر تعقيداً؛ فهي تمشي على حبلٍ مشدود بين قيمٍ موروثة من الشرق، ومغرياتٍ مفتوحة في الغرب. وإن لم تملك نضجاً روحياً يحميها، ضاعت بينهما. الخطر الأكبر ليس في الفعل ذاته، بل في تطبيع الخيانة، في أن تصبح مقبولة، وأن تفقد الكلمة معناها، فيغدو الوفاء استثناءً، والخداع هو الأصل.

تبقى الحقيقة التي لا مهرب منها أن الخاسر الأول في هذه المعادلة هو الزوج، أما الزوجة التي تتوهم أنها ربحت حرّيتها، فإنها في الواقع تخسر ذاتها. تخسر احترامها، وسكينتها، وثقتها بنفسها، لتجد نفسها في نهاية المطاف أسيرةً لهاتفٍ، وذكرى، ووهم حبٍّ لا وجود له.

تلك هي الصورة كما هي: مريرة، موجعة، لكنها الحقيقة التي لا يُجدي إنكارها.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.