: آخر تحديث

غزة بين نيران الخارج وشرارات الداخل

2
2
2

تتزاحم الملفات على طاولة الأزمة الفلسطينية في مشهد يزداد قتامة، فبينما تتوالى جولات مفاوضات التهدئة الإقليمية التي بلغت محطتها الأخيرة في شرم الشيخ يوم الثامن من تشرين الأول (أكتوبر) 2025، حيث أعلن الرئيس الأميركي عن اتفاق وقف إطلاق نار أولي بين إسرائيل وحماس، يشمل إطلاق سراح الرهائن مقابل آلاف المعتقلين الفلسطينيين وانسحاب تدريجي للقوات الإسرائيلية، تبرز على السطح تطورات داخلية تنذر بتحديات بنيوية قد تهدد مستقبل القطاع أكثر من أي ضربة خارجية. إنها "شرارة الداخل" التي انطلقت من حي المجايدة في خان يونس يوم الثالث من تشرين الأول (أكتوبر)، مؤكدة أن النسيج الاجتماعي الغزي، بالرغم من صلابته، لم يعد عصياً على التصدع تحت وطأة الحرب والحصار.

لطالما شكلت العشائر الفلسطينية في غزة ركيزة أساسية للتماسك الاجتماعي، عملت كـ"قضاء عرفي" موازٍ، يفض النزاعات ويحفظ السلم الأهلي، وكمخزون بشري يمتلك تأثيراً سياسياً لا يُستهان به. منذ النكبة عام 1948، كانت هذه العشائر – مثل المجايدة والديري وغيرهما في رفح وجباليا – العمود الفقري للصمود الفلسطيني، تقاوم الاستعمار البريطاني ثم الاحتلال الإسرائيلي. في الانتفاضة الأولى عام 1987، قادت العشائر التظاهرات ونظمت الإضرابات، موفرة الحماية للمقاتلين بفضل شبكاتها العائلية المتينة. خلال حروب 2008 و2014، تولت تنظيم الدفاع المدني، إيواء النازحين، وتوزيع المساعدات، مما جعلها درعاً شعبياً أمام الدمار الإسرائيلي.

لكن في تلك الحادثة المؤسفة، تشير التقارير إلى أن الاشتباك بدأ بعد اتهامات من حماس لعشيرة المجايدة باحتكار توزيع المساعدات الإنسانية، مما دفع وحدة "سهم" – المسؤولة عن الأمن الداخلي – للتدخل بعنف. تحول الخلاف إلى مواجهة مسلحة استخدمت فيها الأسلحة الثقيلة، أسفرت عن مقتل نحو 22 عنصراً من حماس وعدة أفراد من العشيرة، مع إصابات بالعشرات. رد فعل العشائر كان لافتاً وموحداً، حيث أصدرت بياناً مشتركاً وصفت فيه الحادث بـ"الاعتداء على كرامة الشعب"، مطالبة بحوار وطني لإنهاء "الانقسامات التي يغذيها الاحتلال". هذا التوحد ليس مجرد رد فعل على الحادثة، بل تعبير عن استياء متراكم من إدارة المساعدات وتدخلات أمنية غير محسوبة، في وقت يعاني فيه القطاع من حرب دمرت 85 بالمئة من بنيته التحتية وشردت 90 بالمئة من سكانه. لكن هذا التوتر لا ينفي دور العشائر كحاضنة للمقاومة، كما أكد بيان عشائري في كانون الثاني (يناير) 2025، رفضاً لخطط الاحتلال لخلق واقع بديل في غزة.

إن الأبعاد المترتبة على هذه المواجهة تتجاوز نطاق الخلاف العائلي أو حتى الأمني. فعلى المستوى الاجتماعي، تمثل هذه الحادثة جرحاً غائراً في العلاقات الداخلية، إذ تهدد بإعادة رسم خريطة الولاءات وتعميق الانقسام داخل المجتمع الغزي الذي يعيش أصلاً تحت ضغط الحرب والحصار والفقر المدقع. عندما يتصادم فصيل حاكم مع ركائز المجتمع التقليدية، فإن ذلك يعني أن ثقة القاعدة الشعبية قد بدأت في التآكل بشكل خطير.

أما على المستوى السياسي، فإن هذا التوتر يشكل تحدياً هيكلياً مباشراً لمكانة حركة حماس في غزة. فمنذ سيطرتها على القطاع، اعتمدت الحركة على مزيج من القوة، والخدمات، وشرعية المقاومة للحفاظ على سلطتها. لكن توحد العشائر في موقف معارض يضعف الشرعية الداخلية للحكم في غزة، ويُظهر أن الفصيل الحاكم بات معزولاً نسبياً عن بعض المكونات الأصيلة في مجتمعه. هذا الانعكاس للصراع ليس مجرد حادثة محدودة يمكن احتواؤها بسهولة؛ إنه مؤشر على أن الإدارة الداخلية للقطاع قد تواجه مقاومة من الداخل في حال استمرت في تجاهل هذه القوى المجتمعية أو الدخول في صدامات غير محسوبة معها.

وهنا يأتي الحديث عن الحاجة إلى انتقاد موضوعي لآليات إدارة حماس الداخلية، والتي يجب أن تكون أكثر مرونة وحرصاً على الشراكة المجتمعية، خاصةً في ظروف الحرب. فالمقاومة، في ذروة تضحياتها، تحتاج إلى حاضنة شعبية قوية وموحدة لا تقصي أحداً. يجب على الحركة أن تدرك أن الصرامة الأمنية المفرطة أو التدخل غير المدروس في الشؤون العرفية قد يعرض هذه الحاضنة للخطر، ويمنح الأطراف الخارجية، التي تسعى لـ"خلق بديل" لحماس، فرصة للنفاذ إلى المجتمع الغزي من خلال بوابة العشائر.

إنَّ مستقبل القطاع يتوقف على قدرة فصائله وقواه المجتمعية على احتواء هذه الأزمة الداخلية بسرعة فائقة. السيناريوهات المحتملة تتراوح بين التصعيد الذي سيضعف المقاومة ويخدم أجندات الاحتلال، والوساطات العرفية والسياسية التي تسعى لترميم الجسور المقطوعة. السيناريو الأكثر إيجابية هو أن تُفضي وساطات حكيمة إلى اعتراف واضح بأخطاء الإدارة الداخلية، وإعادة الاعتبار لدور العشائر، وتجنب أي احتكاك مستقبلي يهدد السلم الأهلي.

في الختام، تقف غزة على مفترق طرق، حيث تتزاحم التحديات الخارجية والداخلية، لكن العشائر، كشجرة زيتون متجذرة في أرض فلسطين، تبقى رمزاً للصمود والوحدة. حادثة المجايدة ليست نهاية المقاومة، بل صرخة لإعادة بناء الثقة بين أبناء الشعب الواحد. هل ستنجح حماس في استيعاب هذا الدرس، محولة التحدي إلى فرصة لتعزيز الوحدة؟ وهل ستظل العشائر درعاً للمقاومة، حاملة راية الحرية مع كل فلسطيني يحلم بالتحرير؟ الإجابة في أيدينا، في صمودنا، في إيماننا بأن غزة، بنبض قلوب أبنائها، ستبقى شعلة لا تنطفئ، تضيء درب الحرية حتى تشرق شمس العدالة على فلسطين. فلنكن، كما العشائر، صوتاً موحداً، يتحدى الاحتلال ويبني من كل جرح خطوة نحو النصر، لأن غزة ليست مجرد أرض، بل هي وعد الحرية الذي سيبقى ينبض في قلوبنا إلى الأبد.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.