في بلدٍ مثقلٍ بالندوب والرماد، لا تعود الأخبار مجرد أخبار، بل مرايا تُظهِر ما خفي من صراعات الداخل، وتفضح ما يتوارى خلف اللغة الرسمية من صمتٍ مدجّن. ومن بين تلك المرايا، عاد اسم رجل الأعمال والإعلامي غسان عبّود إلى الواجهة، لا بصفته مالك قناة توقّف بثّها، ولا كرجل ثري يقيم في المهجر، بل كصوتٍ يطرق باب الدولة بهبةٍ تساوي الملايين، فيُقابل بالصمت!.
في لقاءٍ على شاشة "الإخبارية السورية"، فاجأ عبّود جمهوره حين كشف أنه عرض على وزارة الإعلام التبرع بمعدات قناة "أورينت" بعد إغلاقها: أجهزة واستديو متكامل لم يُستخدم يوماً، وأرشيفاً يضمّ ما يقارب 46 ألف ساعة تصوير، تصل قيمتها السوقية إلى 25 مليون دولار. مبادرة كان يمكن أن تُقدَّم كجسر رمزي لإعادة وصل ما انقطع بين الإعلام الرسمي والمبادرات الفردية، أو كصفحة جديدة يُكتب فيها عنوان مصالحة متأخرة.
لكن المفارقة أن الباب الذي طرقه بقي موصداً، لا يُفتح بقبولٍ ولا يُغلق برفض، بل تُرك في منطقة رمادية هي أقرب إلى "التجاهل". عبّود قال إنه وجّه كتابين رسميين إلى الوزير حمزة المصطفى، ولم يتلقَّ أي جواب، لا سلبي ولا إيجابي. بالنسبة إليه، كان الأمر صادماً، خصوصاً حين قارن بين أجهزة متطورة يملكها وبين ما رآه في استديو "الإخبارية السورية" من خرابٍ وغياب أبسط الأدوات!.
في خطابه، بدا عبّود كمن يحاول القول إن المبادرة لا تخفي مطمعاً ولا تحمل أجندة خفية. لكن كلمات الوزير جاءت على الضفة الأخرى: فقد كتب المصطفى عبر صفحته في فيسبوك أن ما قاله عبّود محض "افتراء" يندرج ضمن "حملة تضليل ممنهجة". أوضح أنه بالفعل وجد رسالة عامة في ملف استلام الوزارة تفيد برغبة بالتبرع، لكنها بلا تفاصيل تقنية دقيقة، فضلاً عن وجود توصية تمنع قبول التبرعات الفردية خشية "الاختراق".
بهذا الرد، تحوّل النقاش من مبادرة شخصية إلى قضية سيادية لا تُحسم في مكتب وزير، بل تُعلّق في سماء البيروقراطية حيث يسهل دفن النوايا. بدا المشهد كأنه يُترجم أزمة أعمق: أزمة ثقة بين الدولة ومواطنيها، حيث يُستقبل الكرم بالريبة، ويُقرأ العطاء كغطاء لمكائد غير معلنة.
الصراع بين عبّود والوزير لم يكن سوى انعكاسٍ لصورة أشمل عن الإعلام السوري ذاته. عبّود شبّه استديو "الإخبارية" ببيتٍ مهجور لا يملك كرسياً، أما الوزير فرأى في مبادرته مجرد محاولة لتدوير خلافات قديمة بين "أورينت" وخصومها. وبين هذين الوصفين، تضيع الحقيقة. هل الوزارة رفضت هبةً حقيقية؟ أم أنها دفنتها خوفاً من حسابات سياسية وأمنية لا تُقال؟
قناة "أورينت"، التي تمثّل خلفية هذا السجال، لم تكن يوماً قناة عادية. منذ انطلاقتها عام 2009، سعت لتقديم نفسها كصوت بديل عن الإعلام الرسمي، ومع اندلاع الثورة عام 2011 تحولت إلى منبر هجومي ضد النظام. لكنها في المقابل لم تسلم من انتقادات المعارضة ذاتها، التي رأت في سياساتها انعكاساً مباشراً لمواقف مالكها أكثر مما هي انعكاس لنبض الشارع.
بين انحيازٍ للإمارات في وجه قطر أثناء الأزمة الخليجية، وبين استضافةٍ لشخصيات إسرائيلية أثارت استنكاراً واسعاً، بنت "أورينت" مساراً شائكاً وضعها في مرمى الجميع: موالين ومعارضين، ناصرين وناقمين.
عام 2020، غادرت القناة فضاء الأقمار الصناعية لتكتفي بالبث عبر الإنترنت، قبل أن تُغلق نهائياً في 2023. لحظة الإغلاق لم تمرّ بهدوء؛ فقد أثارت مزيجاً من مشاعر الشماتة والأسى. هناك من رأى فيها سقوطاً طبيعياً لقناة غذّت الانقسام والطائفية، وهناك من اعتبرها المنبر الأول لصرخات الحرية والاعتقال.
الانقسام حول "أورينت" كان دائماً مرآة للانقسام السوري الأوسع: كل طرف يرى فيها ما يفضحه هو لا ما تعكسه القناة. وبقدر ما كانت نافذة لوجع السوريين، كانت أيضاً ساحة لتجاذبات السياسة ومصالح الإقليم.
اليوم، حين يطل عبّود من جديد متحدثاً عن إعادة إطلاق "أورينت"، فإنه يُعلن وبوضوح أن طلب الترخيص لن يكون من وزارة الإعلام بل من رئيس الدولة نفسه. هنا تتجلّى الرسالة: الرجل لم يَعُد يثق بالمؤسسة التي رفضت هِبته، ويريد أن يقفز فوقها مباشرة إلى رأس السلطة.
في المقابل، الوزير يلوّح بالقضاء، مؤكداً أن الحرية لا تعني الفوضى، وأن ما قاله عبّود يَمسّ السمعة ويتطلب مساءلة. ما كان يُمكن أن يُسجَّل كقصة نجاح إنساني وإعلامي، تحوّل إلى شرارة جديدة في نزاع طويل بين رجل الأعمال والدولة. نزاعٌ يذكّر السوريين بأن الإعلام في بلادهم ما يزال ساحة حربٍ صغيرة داخل حربٍ كبرى، أكثر مما هو مساحة خبر أو منبر للرأي.
قصة عبّود مع وزارة الإعلام لا تتعلق فقط بكاميرات وأجهزة مكدّسة في المخازن، بل بما هو أعمق: بمدى قدرة الإعلام السوري على أن يكون جسراً بين المجتمع والدولة، أو على الأقل ساحة يمكن أن يُبنى فيها توافق ما. لكن الواقع أظهر أن المبادرات الفردية تُستقبل بالشك، وأن المؤسسات تغلق أبوابها أمام من يطرقها ولو بهبة سخية.
"أورينت"، التي أرادت أن تكون البديل، لم تنجُ من أمراض الانقسام، والإعلام الرسمي الذي تجاهل الهِبة ما يزال أسير البيروقراطية والخوف. وبينهما يضيع صوت السوريين، الذين ما زالوا يبحثون عن منبر حقيقي يعكس وجعهم دون أن يُسخَّر لمعارك السياسة أو الحسابات الصغيرة.
بين رجل أعمال أراد أن يُسجّل اسمه في سجل العطاء، ووزيرٍ آثر أن يتكئ على صمت البيروقراطية، تقف الحكاية كمرآة لوجع بلد بأكمله. ليست الهبة سوى رمز، وليست الأجهزة سوى استعارة عن فرصٍ تضيع حين يُغلَب الخوف على الأمل.
ويبقى السؤال المعلّق: من يملك القرار في صناعة الكلمة السورية؟ ومن يملك الحق في إسكاتها؟ وهل يمكن لبلدٍ يرفض هِبةً إعلامية بملايين الدولارات أن يجد يوماً صوتاً صادقاً لا يُقمع ولا يُساوَم؟