لم يكن رئيسي مجرد مدير عادي، بل كان ظاهرة إدارية فريدة تستحق أن تُدرَّس في كتب علم النفس التنظيمي. لقد وهبه الله سمعًا خارقًا، يبلغ درجة السَّفَه، كما لو كان أذناه رادارًا يلتقط كل همسة وكل زفرة في أروقة المكاتب.
كان يعشق أن يسمع كل شيء، كبيرًا كان أو تافهًا، وكأن أذنيه لا تشبعان إلا على مائدة القيل والقال. بلغ من ولعه بنقلات الموظفين، وهمسات الاجتماعات، وتفاصيل الخلافات البسيطة بين الزملاء، أن أطلقت عليه في سري لقب "عبدالسميع.. كبير السميعة قبلي".
كنت أسخر من هذا اللقب في نفسي، مستحضرًا شخصية "عبد الرحيم بيه"، تلك الشخصية الكوميدية الظريفة من الأفلام المصرية القديمة، المعروف بـ "عبدالرحيم كبير الرحمية قبلي"، الذي كان يُستقبل بنشيد خاص وتحية عسكرية، ويردد سؤاله الشهير لتابعه: "تروح فين يا عبد الرحيم؟ تتصرف كيف يا عبد الرحيم؟".
كان رئيسي نسخة إدارية من تلك الشخصية، لكن بدلاً من النشيد العسكري، كانت "السمعية" هي نشيده، و"النميمة" هي طقسه الرسمي الذي يدير به مملكته المكتبية. في هذا المشهد الكوميدي، كان هناك وزير دولته، ومدير مكتبه، الرجل الذي أسميته "بُرعي".
كان بُرعي الجسر الرسمي، الناقل الأمين لكل همسة، ومترجم كل نظرة، ومُزيِّن كل نكتة. لم يكتفِ بُرعي بنقل الأخبار، بل كان يصيغها بعناية، يضيف إليها لمساته الخاصة، ويدسها في أذن رئيسه كما يضع الطاهي البهارات على طبق شهي. كان يشفي غليل "عبدالسميع" من فضوله المَرَضي، ويؤكد مكانته كحاجب البلاط الذي لا يُضاهى.
في خلفية هذه اللوحة الكاريكاتورية، كنت أتذكر شخصية أخرى من التراث الإذاعي المصري، ليست "محمود حبيبي" من برنامج "ساعة لقلبك" الشهير، بل زوجته اللحوحة التي جسدتها الفنانة الراحلة خيرية أحمد بصوتها المميز: "محمود.. أنت جيت يا حبيبي؟". كانت تلك الزوجة تراقب الجيران بنهم، تنقل أخبارهم إلى زوجها في إلحاح مزعج، وكأنها تعيش لتغذي فضوله. هكذا كان بُرعي تمامًا: يراقب "بيوت" الموظفين المجاورة، ينقل القصص والشائعات إلى "عبدالسميع"، ويفسد بهدوء أجواء المكتب بثرثرته التي لا تنتهي.
كانت هذه الإدارة مسرحًا يوميًا أعيشه، لوحة كاريكاتورية ظريفة لكنها تعكس واقعًا مريرًا. كنت أرى فيها انعكاسًا لثقافة إدارية تتغذى على النميمة والفضول، بدلاً من التركيز على العمل المنتج. كان عبدالسميع وبُرعي يمثلان نموذجًا للإدارة التي تضيع وقتها في التفاصيل التافهة، تاركةً المهام الحقيقية تتراكم كالأوراق المبعثرة على المكاتب.
ثم دارت الأيام، وجاءت لعبة القدر الساخرة. وجدت نفسي، في لحظة لم أتوقعها، أجلس على كرسي "عبدالسميع" خلفًا له بعد ترقيته إلى منصب أعلى. ورثت مكتبه، وأوراقه، و"بُرعي" كما يُورَث الأثاث القديم! في الأيام الأولى، لم أعرف كيف أتعامل مع هذا الإرث. تركت الأمور تجري، أراقب بُرعي وهو يحاول لعب دوره القديم. كان يهمس لي بأخبار لا أريدها، يرصد ردود أفعالي بنظرات متفحصة، كما اعتاد أن يفعل مع سلفي. لكن أذني لم تكونا كأذني "عبدالسميع".
لم أجد في نفسي شغفًا بسماع من ترك العمل مبكرًا، أو من تشاجر مع زميله على آلة القهوة. كانت أذناي مبرمجتين للعمل الجاد، للتقارير المكتملة، وللمشاريع التي تحقق أهدافًا حقيقية. لم أطل الانتظار. بعد أيام من التفكير، قررت أن أضع حدًا لهذا المسرح الهزلي. استبدلت بُرعي بشخص آخر، رجل لا أعرف عنه سوى كفاءته وصدقه. اخترته لأنه لا "يَرْتَعوي" في أخبار الناس، ولا يجد في نقل الكلام مهنة.
كان رجلاً يؤمن بأن العمل يُقاس بالنتائج، لا بالهمسات. اخترته لأنني أثق في قدراته، وأثق أكثر في خلوه من آفة "السمعية"، تلك السمة التي تفسد بيئات العمل، وتقضي على الثقة بين الزملاء، وتحول المكاتب إلى ساحات للقيل والقال بدلاً من مراكز للإنتاجية. هكذا انتهت حكاية "عبدالسميع" و"بُرعي" في مسيرتي المهنية، تاركةً وراءها ذكرى تثير الضحك أحيانًا، والتأمل أحيانًا أخرى. كانت تلك التجربة درسًا حيًا في أهمية بناء بيئة عمل تعتمد على الشفافية والكفاءة، بعيدًا عن الفضول المدمر والنميمة التي تُضيِّع الوقت وتُشتت الجهود. لقد أدركت أن الإدارة الناجحة لا تحتاج إلى أذن تسمع كل شيء، بل إلى عقل يركز على الأولويات، وقلب يحترم خصوصيات الآخرين.
في النهاية، تُعلمنا الحياة أن الشخصيات مثل عبدالسميع وبُرعي موجودة في كل مكان، لكن الأمر يتوقف علينا: هل نسمح لهم بتحديد إيقاع عملنا، أم نختار أن نرسم لوحة إدارية مختلفة، تعكس قيم الاحتراف والإنجاز؟ اخترتُ الخيار الثاني، وكانت تلك نقطة تحول في رحلتي المهنية، ذكرى أحملها كمصدر إلهام لكل من يسعى لبناء بيئة عمل خالية من الضوضاء، مفعمة بالإنتاجية والثقة.