: آخر تحديث

ترامب… حين تصبح النكتة أداة حكم

3
2
3

لا يُشبه دونالد ترامب أحدًا من زعماء القرن الحادي والعشرين. يطلّ من شاشة العالم بخفة الممثل وجرأة الزعيم، يمزح وهو يقرّر، ويضحك وهو يهدّد. حديثه الأخير عن جائزة نوبل للسلام، حين قال إن الفائزة ماريا كورينا ماتشادو قد تمنحه الجائزة لأنها "تستحق أن تكون له"، بدا في ظاهره نكتة، لكنه في عمقه مرآة لطريقة حكمٍ لا تُشبه سواها: حكم قائم على المفاجأة، وعلى صناعة الصدمة قبل صناعة القرار.

النكتة كاستراتيجية تواصل
منذ بداياته في عالم السياسة، أدرك ترامب أن الجماهير لا تُحرّك بالخطابات الطويلة، بل بالجمل القصيرة التي تُشعل العواطف. استخدم النكتة لا كترف لغوي، بل كأداة اتصال فعّالة. كان يسخر من خصومه علنًا — من هيلاري كلينتون إلى جو بايدن — ويُطلق الألقاب كما يُطلق الرصاص: "النعسان جو"، "الكاذبة هيلاري"، "الإعلام المزيف". تلك العبارات الساخرة صنعت له هوية سياسية مستقلة عن لغة السياسيين التقليديين، فبدت الجماهير كأنها تستمع إلى صديق يتهكم من الواقع، لا إلى رئيس يتلو خطابًا رسميًا.

بهذه النبرة الشعبية الماكرة، جعل ترامب من الطرافة وسيلة لاختراق الوعي الجماعي، وكسر الحواجز بينه وبين جمهوره. كانت سخريته تذيب التوتر، لكنها أيضًا تُربك الخصوم، إذ لا أحد يعرف متى تنقلب النكتة إلى قرار، أو السخرية إلى سياسة خارجية.

بين الطرافة والأنانية السياسية
في كل تعليق ساخر يطلقه ترامب، تكمن أنانية مدهشة؛ فهو يجعل من ذاته مركز الحدث، حتى حين يتحدث عن الآخرين. حين هنّأ ماريا كورينا ماتشادو على نوبل، لم يستطع أن يُخفي إحساسه بأنه الأحقّ بالجائزة، فقال بنصف ابتسامة: "هي قالت إنها تقبلها تكريمًا لي… وهذا أمر لطيف". بدا كمن يضحك، لكنه في العمق يُعلن أنه لا يرى إنجازًا عالميًا إلا من زاويته الخاصة.

هذه النزعة النرجسية ليست طارئة في شخصيته، بل جزء من فلسفة حكمه؛ فهو يرى العالم ساحة مسرح، وهو بطل العرض الأوحد. من هنا تأتي قدرته على تحويل أي مناسبة إلى مشهد استعراض، وأي حوار سياسي إلى لحظة ذات طابع درامي مشحون بالمفارقة. إنه الزعيم الذي يمزج بين التمثيل والسلطة، فيصعب التمييز بين ما يقوله للضحك وما يقوله للحكم.

فلسفة الحكم بالمفاجأة
قد يبدو ترامب عفويًّا في كلماته، لكنّ العفوية عنده جزء من استراتيجية محكمة. فكل نكتة، وكل تعليق ساخر، يخفي خلفه هدفًا محددًا: إرباك الخصم، وتحريك الإعلام، والسيطرة على جدول النقاش العام. لقد حوّل الإعلام إلى أداة في يده دون أن يملكها فعلاً؛ إذ يكفي أن يُطلق تغريدة ليملأ الشاشات بالتحليلات.

حين فاوض كوريا الشمالية، بدأ المزاح قبل المفاوضة: "زعيم قصير الصاروخ"، ثم تحوّل المزاح إلى لقاء تاريخي. وحين اشتد الخلاف مع الصين، جعل من تصريحاته النارية مادة للإثارة، قبل أن يستخدمها كورقة تفاوض. هذا هو ترامب: يقول ما يفكر فيه العالم، ولكن بطريقة تجعله يضحك وهو يضع الشروط.

إنه لا يحكم بالمنطق التقليدي القائم على التخطيط الطويل، بل بأسلوب "الضربة المفاجئة". قد يُغضب هذا الأسلوب خصومه، لكنه في الوقت نفسه يجعلهم في موقع المتلقّي الدائم لخطواته. وهنا تكمن عبقريته: أن يُظهر نفسه ساخرًا، فيما هو يمسك بخيوط اللعبة بإحكام.

خاتمة
قد نضحك من نكاته، لكننا لا نستطيع تجاهل تأثيرها. فترامب أدرك مبكرًا أن السياسة الحديثة لم تعد تُدار بالبيانات الجافة، بل بالكلمات التي تصنع الحدث قبل وقوعه. إنه زعيم من زمن "السوشال ميديا"، يختصر التعقيد بجملة، ويقلب الموازين بابتسامة.

قد يراه البعض مهرّجًا، لكنه في الواقع ممثل بارع يعرف جمهوره جيدًا. وبين الجدّ والهزل، يظلّ دونالد ترامب حالة سياسية فريدة: زعيمًا يصنع من النكتة أداة حكم، ومن السخرية وسيلة سلطة، ومن كل كلمة يقولها… عنوانًا لعصرٍ يتكلم بلسان المفارقة.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.