اليوم، ينكسر قلمي حزناً، وترتجف الكلمات على الصفحة، وهي تحاول أن تَلِغَ فَجَاعَةَ الفِقْدَان. اليوم، رحل عملاق من عمالقة الإيمان والعطاء، رحل الصديق العزيز، الدكتور عبدالله عمر نصيف. رحمك الله رحمة واسعة، وأسكنك فسيح جناته، وجمعنا بك في مستقر رحمته.
لم يكن "نصيف" مجرد اسمٍ نُردِّده، بل كان قيمة إنسانية وإسلامية شامخة، كانت حياته سِفْراً مفتوحاً من العطاء. كان كتلك "الزُنبُقة السوداء" النادرة التي تحدثت عنها ذات مايو 2018، زهرةٌ لا تُثَمَّن بثمن، تفوح عطْراً بالإيمان، ويتدرج لونها في خدمة دينها ووطنها من القرمزي شغفاً، إلى البنفسجي تواضعاً، إلى الأزرق حكمة، حتى استقر في سوادٍ غامقٍ يمثل عمق انتمائه لكل مسلم، بغض النظر عن لونه أو عرقه.
ذلك السواد لم يكن سواداً عادياً، بل كان كما حَكَى بنفسه عن ذلك الداعية الأفريقي الذي أقام له حفل تكريم قدمه فيه قائلاً للحضور: د. عبدالله نصيف قد يكون أبيض البشرة.. لكن: "قلبه أسود".
نعم، كان أسودَ يمثل سوادَ قلوب إخوته المسلمين في أفريقيا وفي كل مكان. كان سواد محبةٍ تضم الجميع تحت لواء "لا إله إلا الله". كان سواد إيمانٍ يشرق بنور التوحيد، فلم يكن في قلبه مكان للزيف أو الادعاء، بل كان ممتلئاً برجاء التقرب إلى الله والفوز بجناته.
شغل المناصب الرفيعة – مديراً لجامعة الملك عبدالعزيز، وأميناً عاماً لرابطة العالم الإسلامي، ونائباً لرئيس مجلس الشورى – لكنه ظل أباً للجميع، وأخاً في الله قبل كل شيء. كانت جائزة الملك فيصل لخدمة الإسلام عام 1991 تتويجاً مسكوتاً عنه لحياةٍ كلها عطاء، وشهادةً ناطقة بسمو مكانته. وقد أثبت في مسيرته الشامخة أن "خدمة للإسلام ليست منصباً، بل قلباً ينبض بالتوحيد". وهذا هو إرث نصيف الذي يمتد إلى الشباب والمشاريع الإسلامية التي أسسها، داعياً إلى الوحدة والعمل الخيري عبر القارات.
والآن، ها هو يغادر دنيانا، تاركاً وراءه فراغاً هائلاً في القلوب. فراقك يا صديقي يجعل الذكريات تتقافز كشريط سينمائي مؤلم وحزين، نبتسم لطيبتك، ونحزن لأننا لم نُوفِك حقك من الود، ونتمنى لو يعود بنا الزمن لنصافحك مرة أخرى بقلوبنا، ونقول لك: "جزاك الله خيراً".
رحيلك صفعة قاسية تذكرنا بأن العمر قصير، وأن رحيل صديق العمر هو ناقوس ينذر بأن الرحلة شارفت على النهاية. نعم، نستمر في الحياة، ولكن بقلب ناقص، وروح تئن تحت وطأة الفقد.
نافذة:
وَفَقَدْتُ الْيَوْمَ صَدِيقًا آخَرَ...
أَلْقَى بِعَصَاهُ وَوَدَّعَ...
تَحَرَّكَتْ يَدِي نَحْوَ الْهَاتِفِ
وَطَلَبْتُ رَقْمَهُ...
وَكَأَنِّي أَسْمَعُ
عَلَى الطَّرَفِ الْآخَرِ
صَوْتًا يَقُولُ:
«صَاحِبُ الْهَاتِفِ الْمَطْلُوبِ
انْتَقَلَ إِلَى عَالَمٍ آخَرَ
أَحْلَى مِنْ عَالَمِكُمْ
تَرَكَ دُنْيَاكُمْ
وَرَحَلَ...»
رحلت أيها الصديق العزيز، رحلت جسداً، لكن ذكراك الطيقة، وعطاءك الزاخر، وإيمانك العميق، ستبقى زنبقة سوداء نادرة لا تذبل في بستان قلوبنا.
إنا لله وإنا إليه راجعون