: آخر تحديث

الناخب العراقي بين العقل واللاوعي: قراءة في خيارات التصويت

1
1
1

تعدّ الانتخابات في العراق حدثاً سياسياً مركباً، يعكس ليس فقط التوجهات الاجتماعية والسياسية، بل أيضاً الديناميات النفسية العميقة للناخبين. ولتفهم هذه الظاهرة، يمكن الاستفادة من منهج كارل يونغ في التحليل النفسي، الذي يركز على العلاقة بين القوى الواعية واللاواعية في الشخصية، ويتيح تفسير سلوكيات الناخبين ضمن سياقات رمزية وثقافية أوسع. يحاول هذا المقال تحليل موقف الناخب العراقي من خلال ثمانية أسس رئيسة في منهج يونغ: التوازن بين القوى الواعية واللاواعية، اللاوعي الجمعي، النماذج الأولية، التجريبية، تحقيق الذات، المركبات، مع التركيز على رمزية السلوك الانتخابي العراقي.

يرى يونغ أن الشخصية البشرية تقوم على نقطة توازن بين القوى الواعية واللاواعية. في سياق الانتخابات العراقية، يمكن ملاحظة هذا التوازن في كيفية اختيار الناخب بين الخيارات المتاحة. فالناخب الواعي غالباً ما يحدد موقفه بناءً على تقييمات موضوعية للأداء السياسي، وبرامج الأحزاب، والكفاءة الإدارية للمرشح. بالمقابل، تتجلى القوى اللاواعية في الانتماءات العشائرية، والانحيازات الطائفية، أو الرموز التاريخية والسياسية التي تحمل طاقة نفسية قوية لدى الناخب. مثال واضح على ذلك كان في الانتخابات الأخيرة، حين صوّت جزء من الناخبين وفقاً لتاريخهم العائلي أو ارتباطهم بالمجموعات القبلية، حتى لو تعارض ذلك مع مصالحهم الاقتصادية أو البرامج الانتخابية الرسمية. يُظهر هذا أن القوى اللاواعية يمكن أن تطغى على العقل الواعي إذا لم يكن هناك توازن داخلي، بما يتوافق مع ما أشار إليه يونغ بأن اختلال التوازن بين القوى الواعية واللاواعية يؤدي إلى سلوكيات غير متوقعة أو متناقضة.

اللاوعي الجمعي: ذكريات التاريخ والرموز المشتركة
أحد الابتكارات الرئيسة في منهج يونغ يقوم على مفهوم اللاوعي الجمعي، الذي يمثل تجارب وذكريات أسلافنا، ويظهر من خلال رموز ونماذج أولية مشتركة بين البشر. في حالة الناخب العراقي، يمكن تفسير بعض السلوكيات الانتخابية الغريبة أو اللاعقلانية، مثل دعم مرشحين مشهورين بأدوارهم الرمزية في التاريخ الوطني، أو تفضيل رموز معينة على أساس الانتماء الطائفي أو الديني، على أنها تجليات للاوعي الجمعي. فعلى سبيل المثال، يمكن النظر إلى الناخبين الذين يميلون إلى السياسيين الذين يمثلون صورة "المقاوم الوطني" أو "الحامي للشعب"، حتى وإن لم يقدم هؤلاء السياسيون برامج ملموسة، على أنهم يستجيبون لنموذج أولي متجذر في تاريخ العراق الحديث. هذا يوضح أن الرموز الجماعية يمكن أن توجه سلوك الناخبين بطريقة تفوق تأثير التحليل العقلاني للسياسة.

النماذج الأولية: فهم الشخصيات الرمزية
تُعد النماذج الأولية من أهم أدوات يونغ لفهم النفس الإنسانية. ومن أبرزها "الشخصية" التي تمثل الواجهة التي يظهرها المرشح للعالم. في الانتخابات العراقية، غالباً ما يحاول المرشحون إظهار صورة القائد الوطني الصادق، أو المدافع عن حقوق الطائفة أو العشيرة، وهي صورة يمكن أن تتوافق أو تتعارض مع الشخصية الواقعية لهم. هذا التناقض بين الشخصية والواقع قد يولد انطباعات متناقضة لدى الناخبين.

أما "الظل"، فيمثل الجوانب المكبوتة أو المظلمة للشخصية، والتي قد تتجلى في المرشح أو في المجتمع نفسه. على سبيل المثال، الانقسامات الطائفية أو الفساد المستشري يمكن أن تكون جزءاً من الظل الجمعي للمجتمع، ويظهر تأثيره في التحالفات الانتخابية أو في اختيار المرشحين.

وتوازن الرمزية الذكورية والأنثوية، حيث يوضح يونغ أن كل فرد يحمل داخل نفسه الجانب المعاكس من الجنس، وهو ما قد يُفسر الحاجة إلى توازن الرمزية الذكورية والأنثوية في السياسة العراقية، حيث يسعى الناخب إلى مرشحين يمثلون التوازن بين القوة الحازمة والحس الاجتماعي، سواء عند الرجال أو النساء.

أما "الذات"، فتمثل المركز الذي يتوازن فيه كل شيء ويحقق الوحدة والتكامل. ويمكن النظر إلى الناخب العراقي الذي يسعى إلى اختيار المرشح الأمثل على أنه في رحلة نحو تحقيق الذات الجمعي، أي رغبة المجتمع في رؤية قيادة متكاملة ومستقرة تعكس توازن القوى المختلفة داخلياً وخارجياً.

التجريبية والتركيز على التجربة: تحليل سلوك الناخب
يؤكد يونغ على أهمية التجريبية والملاحظة الدقيقة، بدلاً من الاعتماد الكلي على النظرية المجردة. يمكن تطبيق هذا المبدأ على دراسة الانتخابات العراقية من خلال متابعة سلوك الناخبين ومواقفهم العملية في التصويت، والاستفتاءات الشعبية، والنقاشات العامة. من خلال رصد سلوك الناخب، يمكن ملاحظة التأثير العميق للرموز الجماعية والمركبات النفسية التي تتحكم في قرارات التصويت، مثل الميل إلى المرشحين الذين يعكسون صورة "البطل" أو "المنقذ"، حتى لو لم تكن لديهم خبرة سياسية حقيقية.

تحقيق الذات عند يونغ هو الهدف النهائي للنفس البشرية، ويتم من خلال عملية مستمرة نحو توحيد مكونات الشخصية المختلفة. على مستوى الناخب العراقي، يمكن النظر إلى عملية التصويت كجزء من رحلة اجتماعية ونفسية أوسع نحو تحقيق الذات الجمعي؛ حيث سعي الناخبين لرؤية مرشح يوازن بين القيم العشائرية، الطائفية، الوطنية، والعملية. في هذا السياق، تصويت الناخب ليس مجرد اختيار سياسي، بل تعبير عن رغبة المجتمع في الانسجام الداخلي والتكامل بين القوى المختلفة في الشخصية الجمعية للبلاد.

المركبات: القوى اللاواعية المؤثرة
المركبات تمثل مجموعات من الأفكار والمشاعر ذات قوة نفسية كبيرة، والتي يمكن أن تؤثر في السلوك الانتخابي إذا أصبحت مهيمنة. في العراق، يمكن ملاحظة مركبات مرتبطة بالتاريخ الوطني، والغضب من الفساد، والحنين إلى الوحدة، أو الخوف من الانقسامات الطائفية، وكلها توجه تصويت الناخب بطرق غير مباشرة. فعلى سبيل المثال، مركب "المناضل المضطهد" قد يدفع الناخبين لدعم مرشحين مرتبطين بأدوار تاريخية بطولية، بينما مركب "الخذلان السياسي" قد يولد رفضاً جماعياً لكل الأحزاب التقليدية، مما يؤدي إلى ارتفاع نسب التصويت للمرشحين الجدد أو المستقلين.

يمكن القول إن منهج يونغ في التحليل النفسي يقدم أدوات مؤثرة لفهم موقف الناخب العراقي، بعيداً عن التفسيرات التقليدية الاقتصادية والسياسية البحتة. من خلال التوازن بين القوى الواعية واللاواعية، واستكشاف اللاوعي الجمعي والنماذج الأولية، يمكن تفسير التصويت العراقي كعملية رمزية تعكس الصراعات الداخلية للجماعة والرغبة في تحقيق الذات الجمعي. الناخب العراقي، بدلاً من أن يكون مجرد مستجيب للبرامج الانتخابية، هو كائن نفسي يتفاعل مع رموز تاريخية وثقافية، ومركبات نفسية، وواجهات شخصية تظهرها السياسة. بالتالي، فهم الانتخابات العراقية يحتاج إلى دمج التحليل النفسي الرمزي مع الملاحظة التجريبية للسلوك الواقعي، وهو ما يقدمه منهج كارل يونغ بشكل فعال، مما يمكن صانعي القرار والباحثين من إدراك العوامل الخفية المؤثرة في سلوك الناخبين، والتنبؤ بالاتجاهات السياسية على أسس علميَّة ونفسيَّة.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.