لسنوات، عملت موسكو على تسويق نفسها كقوة عظمى قادرة على تحدي الغرب وفرض معادلات جديدة. خطاب حاد، عروض عسكرية صاخبة، وصورة إعلامية مصممة بعناية لتقديم روسيا كقوة لا يمكن هزيمتها.
لكن حرب أوكرانيا برهنت أن الفارق بين ما تبيعه موسكو وما تقدر عليه فعليًا… واسع ومكشوف.
الوهم – صورة مصنوعة
منذ بداية الغزو، فرضت السلطات الروسية رقابة صارمة على الإعلام، حتى أن استخدام كلمات مثل "حرب" أو "غزو" أصبح محظورًا قانونيًا، واستُبدل بمصطلح "العملية العسكرية الخاصة"، بزعم حماية الناطقين بالروسية من "إبادة جماعية".
الإعلام الروسي الرسمي روّج لثلاثة محاور أساسية:
1. التقليل من حجم الخسائر العسكرية.
2. تصوير الجيش الأوكراني على أنه منهار، والجنود يفرّون من مواقعهم.
3. إلقاء اللوم على الناتو باعتباره السبب الرئيسي في اندلاع الحرب.
حتى وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف حذر كييف، في آب (أغسطس) 2025، قائلًا: "إذا رفضت أوكرانيا الحياد وعدم الانضمام إلى حلف الناتو، فإن الأسس التي تشكل أساس الاعتراف باستقلالها ستختفي."
إلى جانب ذلك، اعتمدت موسكو على عروض عسكرية ضخمة واستعراض الصواريخ العابرة للقارات لتقديم نفسها كقوة عظمى لا يمكن تحديها، وهو خطاب لقي صدى في الشرق الأوسط وإفريقيا حيث يتم توظيفه كجزء من سرديات مناهضة للغرب.
الواقع: حدود القوة
الغزو كشف أن الفجوة بين الخطاب والقدرة أعمق مما تصوره الكرملين. كانت الخطة الروسية قائمة على حسم سريع: انهيار كييف خلال أيام، تراجع الدعم الغربي، وفرض شروط موسكو بالقوة. لكن الواقع جاء معاكسًا.
إذ بالغت موسكو في الثقة بقدرتها على تحقيق النصر بأدوات محدودة، وافترضت أن أوكرانيا ستنهار وأن الدعم الغربي سيتلاشى. لكن هذه المقاربة اصطدمت بواقع مختلف، فبدلاً من الانهيار، توحد الصف الأوكراني ودعمته تعبئة شعبية وتغطية إعلامية دولية داعمة. مما أفشل الهجوم السريع، وأجبر القوات الروسية على التراجع، ليتحول الصراع إلى حرب استنزاف طويلة.
ميدانيًا، سقطت صورة الجيش الروسي المتفوق، بعد اسقاط مقاتلات حديثة، وتدمير قاذفات، وفقدان الدبابات والآليات المدرعة. فضلاً عن ضعف واضح في القيادة والتنسيق العسكري.
ضابط فرنسي سابق علّق على أداء موسكو العسكري قائلًا: "افتقدت العمليات الروسية إلى سياسة قيادة وسيطرة فعّالة، شابها ضعف التنسيق بين القوات الجوية والبرية وانخفاض دقة الضربات".
ولتقليل التكاليف المترتبة عليها مقارنة بالجيش النظامي، مع إمكانية الإنكار الرسمي للأنشطة العسكرية الخارجية، وتجنب الالتزامات الاجتماعية تجاه القتلى، مع تنفيذ عمليات هجينة دون تبعات سياسية، كانت موسكو قد لجأت للاعتماد على شركات عسكرية خاصة، رغم أن الدستور الروسي يحظر الشركات العسكرية الخاصة.
الانكشاف: "دم مقابل أرض"
تستخدم الدول العظمى الجانب الدعائي لتعظيم وتفخيم مقدراتها العسكرية والعلمية لتضخيم صورتهم والتأثير على الإدراك العالمي لتحقيق مكاسب سياسية واستراتيجية، حسب اللواء المتقاعد من القوى الجوية السعودية، عبد الله القحطاني. حيث تهدف هذه الحملات الدعائية إلى خلق صورة ذهنية عن الدولة أكبر من واقعها الفعلي، كحال هوليوود في الولايات المتحدة. بجانب التأثير على الجانب السياسي والعسكري والمعنوي للدول الأخرى. وفرض شروط سياسية، مثل منع انضمام أوكرانيا لحلف شمال الأطلسي (الناتو).
يضيف اللواء القحطاني لـ"إيلاف": "تستخدم روسيا هذا الأسلوب، وقد حققت من خلاله مكاسب على الأرض في أوكرانيا، مستفيدة من وضعها كدولة نووية وعضو دائم في مجلس الأمن".
لكن بعيداً عن المنظور العسكري التقليدي لتعريف الهزيمة، والذي بات مختلفاً في القرن الحادي والعشرين، ولم يعد يقاس بالاجتياح العسكري فقط، بل بمؤشرات مركبة مثل: فقدان زمام المبادرة الاستراتيجية. وتآكل قوة الردع والهيبة الدولية. والاستنزاف الاقتصادي والمعنوي المستمر. إضافة لاختراق "العمق الآمن" كحال الهجمات الأوكرانية في منطقة كورسك، إضافة لاستمرار الحرب دون حسم واضح.
تحولت روسيا إلى قوة غارقة في صراع طويل، مشغولة بتقليل الخسائر بدلاً من تعظيم المكاسب، وبما يمكن وصفه بـ "التآكل الهادئ" أو "الهزيمة الباردة" التي تقاس بتراجع النفوذ والقدرة على الفعل الحر، وليس بالاستسلام العسكري. فمع مرور شهر على الغزو الروسي لأوكرانيا، كشفت التقديرات العسكرية لحلف الناتو عن خسائر فادحة وأخطاء استراتيجية متكررة من جانب موسكو. وإلى فقدان روسيا نحو خمس قوتها القتالية، بما فيهم نائب قائد أسطول البحر الأسود، مع ستة قادة عسكريين كبار وعشرات الضباط. "افتقد الأداء الروسي إلى سياسة قيادة وسيطرة فعالة، وشابه ضعف بالتنسيق بين القوات الجوية والبرية، وانخفاض دقة الضربات الجوية" قال ضابط فرنسي سابق.
تحولت الحرب إلى نزيف مفتوح. المكاسب الميدانية أصبحت بطيئة ومكلفة، فيما يدفع الروس ثمنًا بشريًا واقتصاديًا هائلًا. تقدّر تقارير غربية أن خسائر الجيش الروسي تقترب من 900 ألف جندي بين قتيل وجريح وأسير ومفقود. ومع العقوبات، تتراجع قدرة روسيا على تعويض المعدات الحديثة أو تطوير صناعتها الدفاعية. تحقيق مكاسب محدودة مقابل خسائر هائلة جعل استراتيجية موسكو أقرب إلى "دم مقابل أرض: "التقدم موجود، لكنه يترك وراءه اقتصادًا منهكًا ومجتمعًا متصدعًا وجيشًا يزداد استنزافًا.
قوة الدعاية: لماذا ما زالت فعّالة؟
تعتبر الدعاية الروسية المعاصرة امتداد لمنظومة "التدابير السوفيتية النشطة"، المعتمدة على التضليل الإعلامي والشائعات وحرب المعلومات، مع تطويرها لمواكبة العصر الرقمي، حسب مركز الجزيرة للدراسات. حيث تمتلك روسيا خبرة متراكمة من حروب سابقة، مما سمح لها بصقل أدواتها الدعائية وبناء جيوش إلكترونية لنشر سردياتها. فيما يؤدي الرئيس فلاديمير بوتين دوراً مركزياً في هذه المنظومة الدعائية، نتيجة خلفيته في المخابرات وخبرته التواصلية. حيث تشكل خطاباته الإطار المرجعي الموحَّد لجميع المؤسسات الإعلامية والمسؤولين الروس.
تطورت مقاييس القوة العظمى من ثلاثة ركائز، عسكرية، اقتصادية، بشرية، لتصبح أربعة، بإضافة القوة الناعمة المرتبطة بالإعلام والدبلوماسية العامة، حسب الخبير بشؤون الأمن والدفاع، رياض قهوجي. منوها خلال حديثه لموقع إيلاف لامتلاك روسيا قوة عسكرية مهمة، لاسيما في المجال النووي، لكنها لا تعادل القوى الغربية أو الصين من الناحية التكنولوجية. لكنها ضعيفة نسبيا في المجال الاقتصادي، حيث يعادل اقتصادها الدول المتوسطة. " بشريا، جيدة إلى حد ما"، قال قهوجي. وأضاف، تمتلك موسكو جهازاً إعلامياً ودبلوماسياً قوياً ومتماسكاً، وهو ما يساعدها على تقديم نفسها كقوة عظمى.
مع ذلك، تحتل روسيا المركز الرابع بين القوى العظمى في العالم، بعد الولايات المتحدة، الصين، والاتحاد الأوروبي، حسب قهوجي، فهي لا تمتلك مقومات القوة العظمى المتكاملة.
ما يعنيه ذلك لشركاء روسيا
في ضوء الأداء الروسي المتعثر في أوكرانيا، تبرز الحاجة الخليجية إلى إعادة تقييم معايير اختيار الشركاء الدفاعيين، ليس فقط بناءً على الخطاب السياسي أو العروض التقنية، بل على أساس التجربة الميدانية والقدرة على الاستجابة الفعلية للتهديدات. فالدعاية الروسية التي روّجت لتفوق عسكري غير قابل للكسر، اصطدمت بواقع ميداني كشف عن ضعف في التنسيق، وتراجع في الكفاءة اللوجستية، وعجز عن تحقيق أهداف استراتيجية واضحة.
الدرس الأهم: لا يمكن بناء منظومات أمنية إقليمية على أساس تحالفات رمزية أو استعراضات عسكرية، بل على قدرة الشريك على تقديم دعم فعّال ومستدام في حالات الطوارئ. كما يجب الحذر من الانخراط في شراكات دفاعية مع قوى تسعى لتوسيع نفوذها عبر أدوات دعائية، دون امتلاك القدرة على ترجمة هذه الطموحات إلى حماية فعلية للمصالح الإقليمية. فيما يبقى البديل الاستراتيجي، هو الاستثمار في بناء قدرات ذاتية، وتوسيع الشراكات مع دول تمتلك سجلاً مثبتاً في الاستجابة السريعة، والجاهزية العملياتية، والتكامل الاستخباراتي.
إلى ذلك يلفت اللواء القحطاني إلى أن الدول العربية والخليجية لم تعد تتأثر بهذه الدعاية سلباً أو إيجاباً، فـ "الحرب النفسية" معروفة للجميع، وأصبحت القوة الحقيقية لكل دولة مكشوفة وواضحة من خلال العلاقات الدولية. وتعلم الدول العربية عموماً، والخليجية خصوصاً، حجم تأثير روسيا في الميدان الدولي في مجلس الأمن في أوروبا وفي العالم، وتعلم أيضاً ما هو تأثير الصين وأمريكا، وما هو الفرق بين امريكا وبين روسيا؟
"تدرك هذه الدول جيداً الفرق الشاسع في القوة (الاقتصادية، العسكرية، التقنية، والتأثير الدولي) لصالح الولايات المتحدة مقارنة بروسيا أو غيرها". قال القحطاني وأضاف، الحقيقة على الأرض هي التي تحكم، وليست الدعاية. يتم قياس قوة الدولة من خلال الحقائق الملموسة، المؤشرات الاقتصادية والتقنية، سجل التأثير والحضارة الدولي. "دولاً قادرة على التمييز بين الدعاية والحقيقة ولا تنخدع بها بسهولة".
بدروه، يشير قهوجي، إلى مساعدة الدعاية الروسية بتقديم بلادها كقوة عظمى إلى حد ما، لكن ليست نتيجة امتلاك مقومات القوى العظمى، بل نتيجة موازين القوى المتقلبة في علاقات أميركا مع دول المنطقة، والتي توصف بإنها غير سليمة، نظراً لغياب استمرارية السياسة الأمريكية، وهو ما يمنح الروس قدرة على الاختراق في بعض الأماكن. مع ذلك، ورغم وجودها وتأثيرها في مجال الطاقة ومنظمة أوبك بلس، تبقى موسكو الخيار الرابع وليس الأول لدول المنطقة التي تبحث عن شراكات.
ختاماً، رغم الخطاب الروسي الصاخب، لم تتمكن موسكو من فرض إرادتها على أوكرانيا، بل تحولت إلى قوة منهكة، تخوض حرب استنزاف طويلة دون حسم. ذلك أن معايير القوة الحديثة باتت مرهونة بالجاهزية، بالمرونة، والقدرة على التكيف، والاستدامة العملياتية، وهي ما يحدد القوة الحقيقية، لا التصريحات المتلفزة أو العروض العسكرية.
الخلاصة: ما بعد وهم القوة
حرب أوكرانيا أسقطت أسطورة "روسيا التي لا تُقهر". بين العروض العسكرية الفاخرة والواقع الميداني المتآكل، ظهر التناقض الصارخ بين الخطاب والقدرة. بالنسبة لصنّاع القرار في المنطقة، الدرس واضح: الدعاية لا تصنع قوة، والتحالفات يجب أن تُبنى على الحقائق لا على الأوهام. المصداقية العملياتية والجاهزية الفعلية، وليست الخطابات المتلفزة، هي حجر الأساس لأي شراكة استراتيجية ناجحة.
عليه، يجب تذكير صنّاع القرار الإقليميين، بإن السياسات الأمنية يجب أن تُبنى على تقييم واقعي للأداء، لا على وعود جوفاء أو تحالفات شكلية. فالمصداقية العملياتية هي حجر الأساس لأي شراكة استراتيجية ناجحة.