: آخر تحديث
على هامش فصل الكاتب حسن م. يوسف:

دعوة إلى التسامح مع أصحاب الرأي

3
3
2

ليس التسامح مجرّد فضيلة خُلُقية عابرة، بل هو موقف من التاريخ ومن الإنسان معًا. إذ إنّ الشعوب التي عرفت الاضطهاد، ثم استطاعت أن تُعيد بناء ذاكرتها على قاعدة التسامح، وحدها تمتلك القدرة على البقاء. والتجربة الكردية في هذا المجال تظلّ واحدة من عداد أكثر التجارب إنسانية ونُبلًا، إذ إنّها لم تُبنَ على الكراهية ولا على الانتقام، بالرغم من ما أصابها من ويلات وجرائم.

حين اندلعت حرب تشرين بين سوريا وإسرائيل عام 1973، أوقف الملا مصطفى البارزاني القتال ضدّ النظام العراقي، وفضّل أن يُجنّب الجبهة الكردية أيّ تواطؤ مع من كانوا يُعدّون أعداء العرب في لحظة حربهم، بالرغم من أن كتيبة فهد الشاعر كانت قد أُرسلت من سوريا إلى العراق للحرب ضد ثورة البارزاني، وعادت مكسورة، مخذولة، وروى بعض من كانوا في عدادها قصصًا عن مآثر وأخلاق الكرد. إنه لم يفعل ذلك ضعفًا ولا تودّدًا، بل احترامًا لمبدأ، وإيمانًا بأنّ الكرامة لا تُبنى على استغلال لحظة ضعف الخصم. تلك كانت رسالة أخلاقية بليغة، أرسى من خلالها البارزاني قاعدة نادرة: أنّ السياسة لا تُسوِّغ سحق الضمير، وأنّ الخصومة لا تقتضي شطب الآخر من الوجود.

ولعلّ ما جرى مع محمد سعيد الصحاف، وزير إعلام النظام العراقي الذي ملأ الدنيا ضجيجًا دفاعًا عن جرائم دكتاتور العراق - صاحب نظرية العلوج - مثال آخر على عمق هذا النهج. فحين انهار نظامه، ووجد نفسه أسيرًا بعد الغزو الأميركي، لم يتعرّض له الكرد بأذى، بل حُمي ورُعي حتى خرج من أربيل/ هولير بسلام. كان في ذلك مشهدٌ من أصفى وجوه التسامح السياسي: العدو الذي حرّض بالأمس يعيش آمنًا اليوم في كنف من كان يهاجمهم.

إنّ هذا السلوك ليس مصادفة البتة، وإنما هو جزء من بنية الوعي الكردي الذي يرى أنّ الصراع مع الأنظمة لا يعني إلغاء الإنسان. ففي أربيل اليوم يعيش مئات الكتّاب والإعلاميين العراقيين وحتى العرب الذين عملوا في خدمة النظام السابق، وكتبوا ضدّ الكرد، أو حتى من لم يكونوا يومًا ما مع الكرد، ومع ذلك لم يُمسّوا بسوء. بل يعيشون بين الناس، آمنين، يكتبون، يعملون، ويتمتعون بحقوق الإقامة الآمنة والحياة الكريمة. لم يُنبَش ماضيهم، ولم تُقام محاكم الثأر الرمزية، لأنّ الفكرة الكردية الأسمى لا تُقيم ميزانها على الكراهية، بل على الحقّ والعدالة.

تأسيساً على هذا الفهم، أجد من المؤلم أن يُفصل كاتب مثل حسن م. يوسف من اتحاد الكتّاب العرب بقرار إداري متسرّع، مهما كانت الخلافات الفكرية أو الموقفية معه. أنا لا تربطني به أيّة علاقة، ولم أقرأه منذ عقدين أو ربع قرن، ولم يكن بيننا تواصل من أي نوع، بعكس عديدين من طاقم القسم الثقافي في جريدة تشرين الذين ربطتني بهم معرفة إنسانية ومودة مهنية، وكنت ضد موقف أي داعم للنظام، في تلك الفترة، بينما كنت أُحارَب، وأُبعَد عن وظيفتي، وتم فصلي وآخرين من اتحاد الكتاب ولم يكن له ولأمثاله موقف إيجابي منا. لكنّ المسألة هنا ليست شخصية، بل مبدئية. إذ لا يجوز أن يُحاكم الكاتب على رأيه أو يُقصى من فضاء الكلمة لموقف أو انحياز. يمكن - بل يجب - أن يُناقَش فكره، وأن يُقوَّم تراثه الأدبي وفق معايير نقدية صحيحة، لا بأدوات الإقصاء والوصم.

مناسبة القول هي ما أُعلن مؤخرًا عن فصل مجموعة أسماء من اتحاد الكتّاب العرب، على أنهم أعضاء فيه، مع أن بعضهم - كما تبيّن - استغرب وجود اسم رفعت الأسد في القائمة أصلًا، استغرب أن يكون قد عُدّ عضوًا في اتحاد الكتاب العرب، وهو المجرم، ناهيك عن بعض أمثاله من عديمي الموهبة، ممن تم فرضهم بالحذاء العسكري. ومع ذلك، يبقى حسن م. يوسف - في المقابل - معروفًا ككاتب سيناريو، وقاص وسارد له أثره الأدبي الواضح، بغضّ النظر عن الموقف من رؤاه. يمكن دحض آرائه السياسية كاملة. دحض موقفه قبل الثورة وبعدها. وإذا كنا نتحدث عن العدالة والمبدأ، فإنّ السؤال الذي يُطرح هو: ماذا عن أولئك الذين لا يزالون أعضاء مُعتَبَرين في الاتحاد، ممن كانت مواقفهم علنًا مع الفصائل المسلحة التي أجرمت، وقتلت وسرقت ونهبت السوريين في أكثر من عنوان سوري، في تواطؤ ارتزاقي مع هذا المحتل أو ذاك المُموِّل؟ هل ننتظر أن يتم فصلهم أيضًا لأنهم أيَّدوا المجازر؟ أم أن المِقصّ الأخلاقي يُستخدم انتقائيًا، وفق المزاج والاصطفاف السياسي؟

ككاتب نقدت، وبقوة، كل من أساء للثورة السورية. كل من أساء إلى رموز الثورة، متجنيًا، وأتصور أنني كتبت ناقدًا بقوة: بثينة شعبان - خالد العبود - علي الشعيبي - ناديا خوست - إلخ. نقدت أكثر هؤلاء وأنا في الوطن، قبل الثورة السورية، وخلالها.

إنّ الفصل، برأيي، إن استُكملت دواعيه، لا يكون بقرار من مكتب تنفيذي أو بيان فوقي، بل وفق لوائح مُقرّة من مؤتمر عام يناقش بحرية وعلنية، ويحتكم إلى مبدأ الحوار لا القصاص. فالمؤسسة الثقافية التي لا تحتمل التعدد، ولا تملك الشجاعة على النقاش، تفقد وظيفتها المعنوية، وتتحول إلى إدارة بيروقراطية للولاء.

ويمكن لرئاسة الاتحاد الحالية - وكلهم أصدقاء وزملاء أصحاب موقف منذ بدايات الثورة السورية - أن تجد في أرشيف الاتحاد تقارير زملاء لنا - من الحسكة - أو حماة، ممن وقفوا ضد انضمامي إلى اتحاد الكتاب، إلى أن طالبت الراحلة وصال فرحة بكداش أ. علي عقلة عرسان رئيس اتحاد الكتاب - آنذاك - في لقاء بينهما في مجلس الشعب، أو سواه، فرد عليها: عشرات الاعتراضات تردنا ضده. ثم هناك من أَلَّب ضدي، وحارب عضويتي، بعد قبولي في الاتحاد، ولو أعود الآن إلى الوطن، سأستقبله في بيتي، كما استقبلته وأعرته عشرات المراجع لمبحث له، شأن سواه ممن معه، وغيرهما كثيرون، ممن سامحتهم، ووقفت وأقف معهم بعد أكثر من طعنة شخصية، من أشدها استعداء النظام علي - والحرب ضد لُقمتي وحياتي. ولعل آخر نميمة - لأحدهم - كانت بسبب مقال لي عن إبعادي من مهرجانات القامشلي، وأنا ابن المدينة، نشرته في جريدة قاسيون، ووجدت الجريدة مُرفَقة مع التقرير الذي راح المحقق يقرؤه، وأنا واقف رهن التحقيق، حافيًا، وكان معي كل من: سعود الملا - محمد موسى - والراحل فيصل شيخموس محمد "فاتي".

ككاتب، كنت من عداد أوائل من قدّموا استقالاتهم من اتحاد الكتّاب السوريين، في 22 نيسان (أبريل) 2011، برفقة الصديق حسام ميرو، حين أعددنا حملة تواقيع صاغها هو، ودعونا لمقاطعة صحافة النظام ومؤسساته، وكان ثلث الموقعين تقريبًا عن طريقي. وقد نشرت استقالتي تلك أكثر من مرة، وأُعلن فصلنا لاحقًا مع آخرين بسبب مواقفنا من قتل السوريين، لا بسبب نصّ أدبي أو خلاف مهني. إن موقف م. يوسف - إن كان مُناصرًا للنظام - لا يختلف عن موقف أي كاتب مُحتفى به ضمن الحالة السورية العابرة، وله ماضٍ من الدعم ضد السوريين، سواء أكان مع النظام، أو المعارضة. وعلى العكس تمامًا، أتذكر أن الشاعر الراحل إبراهيم الجرادي - عضو المكتب التنفيذي حينها - احتجّ وحده على قرار فصلنا، وأكّد لنا في لقاء جمعنا في الشارقة، أنا وهو والصديق إسلام أبو شكير، أن السبب المباشر لاستقالته كان موقفه الأخلاقي من فصلنا ورفض قتل السوريين. ما الذي يمكن أن نقدمه لمثل هذا المُبدع السوري العظيم بعد رحيله: هنا السؤال؟

إنّ هذه الوقائع لا تُروى للتذكير، بل لتأكيد الفكرة الجوهرية: أن الإقصاء لا يصنع وطنًا، ولا يبني اتحادًا. وأنّ الكلمة، مهما كانت قاسية، لا تُواجه إلا بالكلمة. أما الفصل والطرد، فهما لغة العجز، لا الحزم.

التسامح مع أصحاب الرأي لا يعني تبرئة الخطأ أو التغاضي عن الانحراف، بل يعني الاحتكام إلى العقل لا إلى العصبية، إلى الحوار لا إلى الشطب. فالكاتب، حتى حين يخطئ، يبقى جزءًا من المشهد الثقافي الذي يحقّ للمجتمع أن يعيد تقويمه لا أن يرميه خارج الذاكرة. إنّ قرار الفصل لا يُلغي صاحبَه فحسب، بل يُصيب المؤسسة الثقافية نفسها في مقتل، لأنها تعلن عجزها عن ممارسة النقد الموضوعي وتلجأ إلى سلاح الطرد.

وليست مصادفة أن الأمم التي عرفت فترات من الاضطراب والحروب ثم نهضت من بين ركام الدمار والرماد، كانت تبدأ بإعادة الاعتبار للتسامح. للكلمة ولأصحابها. فالتاريخ الثقافي لا يُبنى على منطق "العدوّ إلى الأبد"، بل على مبدأ أنّ الإنسان أكبر من مواقفه العابرة، وأنّ الكلمة - مهما كانت جارحة - يمكن أن تعاود رسم طريقها إلى أن توضع في سياقها الإنساني.

لقد علّمنا البارزاني، ومعه كلّ أولئك الذين اختبروا القهر ثم انتصروا عليه، أن التسامح ليس ضعفًا بل شجاعة من نوع آخر: شجاعة أن تُبقي الباب مفتوحًا حتى أمام من أغلقه في وجهك يومًا. وأن تُفرّق بين خصمك السياسي وعدوّك الإنساني، لأنّ الأول يمكن أن تعود إلى الحوار معه، أما الثاني فلا وجود له إلا في الخيال المريض للانتقام، كما أن في التاريخين العربي والسوري مئات الأمثلة في هذا المجال.

من هنا، يصبح الدفاع عن حرية الرأي - حتى لصاحب الرأي المختلف أو المرفوض - دفاعًا عن جوهر الإنسان نفسه. فالثقافة التي تُقصي أحد أبنائها لأنّه خالفها في موقف سياسي، إنما تنقض ذاتها. أما الثقافة التي تتسامح وتناقش وتُعيد التقويم بعقلٍ بارد، فهي التي تصنع التاريخ الحقيقي.

إنّ التسامح مع أصحاب الرأي لا يُلغي الخلاف، لكنه يضعه في موضعه الصحيح: خلاف في الفكر لا في الوجود. وبهذا وحده يمكن أن نكتب صفحة جديدة من الوعي، لا يُلوّثها الغضب ولا تُحرّكها الضغائن. فالعدالة بلا رحمة تصير انتقامًا، والحرية بلا تسامح تتحوّل إلى قيد جديد بأسماء برّاقة.

هكذا تُختبر إنسانية الأمم: لا في لحظات ضعفها، بل في قوتها حين تُمسك بزمام السلطة والمعنى. والكرد، إذ مارسوا التسامح مع أعدائهم، قدّموا درسًا للآخرين في أنّ الكبرياء الحقيقي هو أن تعرف كيف تغفر، لا أن تعرف كيف تنتقم.

 


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.