"البشريّة" اسمُ جنسٍ لـ"البشر"، أي ذلك الكائن الذي بَشَرَ جلده، فلم يتغطَّ بالشَّعر كما في كثيرٍ من الأجناس الحيوانيّة. وفي القرآن الكريم يُروى تكذيبُ قومِ ثمود لنبيّ الله صالحٍ بقولهم: ﴿ما أنتَ إلا بشرٌ مثلنا، فأتِ بآيةٍ إن كنتَ من الصادقين﴾ [الشعراء:154].
وهو قولٌ يخلط بين المِثليّة في الخَلْق والمِثليّة في المقام؛ فكأنّ كلّ مَن ينتمي إلى جنس البشر متساوٍ في الإمكانيّات والمزايا. وهو فهمٌ يُؤبِّد الكائنَ البشريّ في إطارِ إمكانيّةٍ واحدةٍ لا يتجاوزها، هي مجرّد كونِه كائنًا ظاهرَ البشرة لا يكسوه الشَّعر.
لكن هل ينسجم هذا الفهم مع مفهوم "البشارة" في قوله تعالى: ﴿وبشرناه بغلامٍ عليم﴾ [الصافات:101]؟
فـ"العِلم" هنا يُقدَّم كإمكانيّةٍ أخرى في هذا الكائن البشري. وإذا وُجدت إمكانيّة "العلم"، فلا بُدّ أن يقابلها إمكانيّة "الجهل". وهكذا ينفتحُ هذا الكائن الذي انكشفت بشرتُه على تعدّد الإمكانيّات: من العلم إلى الجهل، ومن النبوّة إلى الرسالة، ومن الفعل إلى المعنى.
والبشارة - في أصل معناها - خبرٌ يُحدِثُ السرورَ ويبعثُ الأمل، ومنها الاستبشار؛ ففي الغيم استبشارٌ بالمطر، وبالمطر استبشارٌ بالخصب والمرعى والوفرة. وبما أنّ الإمكانيّات ليست ضرورات، فهي لا تتوفّر بالضرورة في جميع أفراد البشر.
هنا يثور السؤال: هل "الإنسانيّة" واحدةٌ من هذه الإمكانيّات؟ أم أنّ كلّ بشرٍ هو بالضرورة إنسان؟
أصلُ "الإنسانيّة" من الجذر (أ ن س)، المتّصل بقدرة الإنسان على الأُنس والألفة ونبذ التوحّش. والتأمّل في الحالة البشريّة يُظهر أن الإنسانيّة إحدى إمكانيّاتها، لا إحدى ضروراتها؛ غير أنّها إمكانيّة راجحة الاحتمال، لأنّها مكتسَبةٌ بالتربية والتعليم.
يمكن لكلّ بشرٍ أن يصير إنسانًا، بقراره أن ينخرط في المجتمع الإنساني: مجتمع المدينة والمدرسة والدولة، مجتمع الأُنس والألفة واحترام المسافة.
من هنا تبدو "الإنسانيّة" إمكانيّةً لكلّ كائنٍ بشريّ، ولهذا يتبدّى للوهلة الأولى أنّ بين المصطلحين ترادفًا، لكنّهما في الحقيقة يُحيلان إلى مستويين مختلفين من الوجود:
فـ"البشريّة" هي الطبيعة، و"الإنسانيّة" هي المقام الذي يمكن لتلك الطبيعة أن تصعد إليه.
إنَّ الالتباس بينهما ليس لغويًّا فحسب، بل وجوديّ كذلك؛ إذ يتأرجح الإنسان بين ما هو مُعطى طبيعيّ وما هو مُتحقّق أخلاقيّ، بين ما هو ظاهرٌ على البشرة وما هو نابتٌ في الضمير. ومن هنا يمكن القول إنّ مسار الإنسان في جوهره هو انتقالٌ من الوجود إلى الماهية: أن يتحرّر من الكينونة الفسيولوجيّة إلى الكينونة الواعية، من الوجود كواقعةٍ بيولوجيّة إلى الماهية كاختيارٍ معنويّ وأخلاقيّ، من أن يكون بشرًا إلى أن يصير إنسانيًّا، أي من أن يكون موجودًا فحسب إلى أن يستحقّ معنى وجوده.