: آخر تحديث

الهجرة نحو الغرب

2
1
2

ما زال باب الهجرة نحو الغرب مفتوحاً، كفمٍ واسعٍ لا يشبع، يمتصّ العقول النيّرة، ويبتلع الطاقات التي كان يمكن أن تُثمر في أرضها لو أُتيح لها الحلم داخل الوطن. ذلك الباب، الذي يبدو من بعيد كنافذةٍ على النور، هو في حقيقته معبرٌ نحو المجهول؛ مجهولٌ يُداعب الأفكار الطموحة، ويُغريها بوهجٍ من وعودٍ تتلألأ كلما ازدادت المسافة بين الحلم والواقع.

بلادنا، بالرغم من بساطة أهلها وصدق نواياهم، ما تزال تنجب أبناءً يتطلعون إلى الأفق البعيد، إلى تلك البلاد التي تُسمّى مجازاً "بلاد المهجر"، وكأنّها الفردوس الأرضي الذي سيمنحهم حياةً هانئة وحريةً بلا قيود. يولد الطفل هنا على ترابٍ دافئٍ مشبعٍ بالذاكرة، لكنه ما يلبث أن يفتح عينيه على قصص الراحلين، على أحاديثٍ تُروى في المجالس عن من وجد في الغربة ملاذاً من الضيق، وحريةً من القيود، ورغيفاً من الكرامة. وهكذا، تتسلّل فكرة الهجرة إلى العقول مبكراً، تنمو كما تنمو الأعشاب بين الشقوق، حتى تصير الحلم الأسمى الذي يطارد الشباب في صمتٍ وأملٍ وقلقٍ معاً.

وليس غريباً أن تكون الهجرة قدراً يُكتب بأيدي من يسعون إليها. فهي لم تعد حدثاً استثنائياً، بل تحوّلت إلى ظاهرةٍ اجتماعيةٍ متجذّرة، وإلى سلوكٍ يُعبّر عن أزمةٍ أعمق من مجرد الرغبة في تحسين المعيشة. فالهجرة، في جوهرها، ليست بحثاً عن المال فحسب، بل عن معنى الوجود ذاته، عن مساحةٍ يتنفّس فيها الإنسان دون خوفٍ أو قيد، عن مكانٍ يُنصت فيه العالم إلى صوته دون أن يُقمع أو يُسكت.

إنّ بلادنا، التي ما تزال تُرزق بالمواليد الجديدة، تبدو وكأنها تُنجب أبناءها للرحيل لا للبقاء، تُربّيهم على الأمل، ثم تودّعهم عند أول مطار، كما لو أنّها تُسلّمهم للقدر بدموعٍ مكتومة وابتسامةٍ متعبة. وهي مأساةٌ صامتة، تتكرر في كل بيت، وكل قريةٍ، وكل مدينةٍ حلمت يوماً أن تكون موطنًا كافياً لأبنائها.

الهجرة في ظاهرها وعدٌ بالحرية، لكنها في عمقها اختبارٌ للروح. فالذين يرحلون يكتشفون سريعاً أن الغربة ليست في الأرض الجديدة، بل في الداخل، في المسافة التي تفصل القلب عن جذوره الأولى. هناك، في المدن البعيدة، يتعلّم المهاجر أن الوجوه قد تبتسم، لكنّ الدفء الإنساني لا يُشترى. يكتشف أن لقمة العيش الهنيّة التي سعى إليها قد تأتي مشبعة بالتعب، وأن الحرية التي حلم بها مشروطةٌ بنظامٍ صارمٍ لا يعرف العاطفة. ومع ذلك، يبقى الحنين جمرةً لا تخبو، تسكن الروح وتُشعلها بالذكريات كلما جاء الليل.

وبالرغم من كلّ ما في الغربة من قسوةٍ ووحدة، فإنّ باب الهجرة لا يُغلق. ما يزال يلوّح في الأفق كإغراءٍ لا يقاوم، يَعِد كلّ جيلٍ جديدٍ بأنّ خلفه خلاصاً مختلفاً، وأنّ في عبوره معنى جديداً للبدء. وكأنّ الإنسان العربي كُتب عليه أن يسير في دائرةٍ من الاغتراب: يغترب في وطنه بحثاً عن ذاته، ثم يغترب في الخارج بحثاً عن وطنٍ ضائعٍ في داخله.

وكم من العقول اللامعة أُغرِيت بذلك الباب، فهاجرت لتبني في الغربة ما لم تستطع بناءه في موطنها، لا لغياب القدرة، بل لغياب الفرصة. وكم من الأوطان استنزفت كنوزها البشرية، فغدت كالحديقة التي تُسقى من عرقها ولا تزدهر. إنّ نزيف العقول هذا لا يُقاس بالأعداد، بل بالأثر الذي يتركه غيابهم في وجدان الأمة، في مدارسها ومشافيها ومصانعها، في قصص أطفالها الذين صاروا يحلمون منذ صغرهم بالرحيل قبل أن يعرفوا معنى البقاء.

ولعلّ أكثر ما يؤلم في مشهد الهجرة أنّه صار عادياً، مألوفاً إلى حدّ الوجع. لم تعد العائلة تودّع أبناءها بالدموع وحدها، بل بشيءٍ من الرضا المُر، كأنّها تُسلّمهم لقدرٍ محتوم. صار الوطن عند كثيرين محطةَ عبور، لا نهاية الرحلة. ومع ذلك، يبقى في القلب خيطٌ خفيٌّ يربط المهاجر بأرضه الأولى، خيطٌ لا تقطعه المسافات ولا تقتله الغربة. فالوطن، مهما ابتعد، يظلّ يسكن الذاكرة كصوتٍ لا ينطفئ.

إنّ الهجرة ليست سوى مرآةٍ لأحلامنا المكسورة، وصرخةٍ صامتة في وجه واقعٍ لم يعرف كيف يحتضن أبناءه. هي قدرٌ صنعناه بأيدينا، ثم صدّقناه حتى صار جزءاً من هويتنا. ومع ذلك، سيبقى فينا من يؤمن بأنّ الأوطان يمكن أن تُشفى، وأنّ العودة ليست مستحيلة، إذا ما استطعنا أن نعيد بناء ما تهدّم في الداخل قبل أن نفكر في عبور أيّ بحرٍ من جديد.

 


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.