كغيري وهم كثر، كنت أرفض أن يصنف الصراع بين العرب والمسلمين من جهة، وإسرائيل ومن يقف وراءها من قوى الغرب من جهة أخرى، كصراع عقائدي في جوهره، أي أنه ديني قبل أن يكون سياسياً أو جغرافياً، متمسكًا بفكرة أن المصالح الاستراتيجية والاعتبارات الدولية هي المحرّك الحقيقي للأحداث، إلى أن وقعت عيناي على صورة لمبعوثي الرئيس الأميركي دونالد ترامب، ستيف ويتكوف وجاريد كوشنر، وهما يقفان أمام حائط المبكى في القدس، يدسان أوراقهما في شقوق الجدار في طقس ديني خالص وتقاطع مدهش بين “الطقس العقائدي” و”الصفقة السياسية”، بالرغم من أن زيارتهما كانت سياسية بامتياز.
عندها تذكرت مقولة للرئيس المصري الراحل حسني مبارك في أوائل التسعينات، وبعد سقوط الاتحاد السوفييتي، عندما كان في لقاء مع المثقفين المصريين، وحين بدأ حديثه التفت إلى اليساريين وقال ضاحكًا: "راحت عليكو". تلك الجملة تصلح اليوم لزمن آخر وصورة أخرى. صورة واحدة قد تُسقط كتابًا كاملاً من النظريات. عند هذه النقطة فقط، يصبح السؤال مشروعًا ومحرّضًا: هل الغرب فعلاً علماني… أم يمارس دينه بذكاء سياسي؟
منذ عقود ونحن نسمع أن الغرب يعيش في زمن “ما بعد الدين”، وأن العلمانية هناك فصل صارم بين المقدس والسياسي. نتعامل مع هذه الفكرة كحقيقة نهائية، حتى أننا بنينا عليها مواقف فكرية ومشاريع سياسية كاملة. لكن ما الذي يحدث حين نكتشف أن “المذبح” ما زال يتقدم على “البرلمان”، وأن الدعاء يُهمس قبل القرار، وأن الجدار الديني أحيانًا أقوى من كل القوانين الدستورية؟
بين “راحت عليكو” و”لسه مصدقين
بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، اعتقد البعض أن التاريخ وصل إلى “نهاية الصراع الأيديولوجي”، وأن الغرب انتصر بالعلمانية والديمقراطية. لكن مشهدًا واحدًا مثل وقوف مبعوثي ترامب أمام “حائط المبكى” يكفي لنسف هذه الرواية. الغرب الذي يطالبنا بالفصل بين الدين والسياسة، لا يجد حرجًا في جعل الجدار الديني نقطة التقاء للقرار السياسي، بل يضع الرمزية الدينية في صميم الدبلوماسية. المفارقة أن بعض المثقفين العرب ما زالوا يظنون أن قرارات الغرب تُصنع في البرلمانات لا في المعابد، وربما سيأتي يوم يلتفت فيه مسؤول عربي إليهم ويقول بهدوء وسخرية: "لسه مصدقين".
العلمانية كما تُدرّس لنا… لا كما تُمارَس عندهم
في الوعي العربي، العلمانية تعني حياد الدولة تجاه الدين. أما في النسخة الغربية، فالنموذج مختلف تمامًا: ليست العلمانية استبعادًا للدين، بل إعادة تموضعه داخل السلطة. في الولايات المتحدة: اليمين الديني أحد أكبر مراكز الضغط. في أوروبا: الكنائس ممثلة في الحكومات وتُعد جزءًا من الهوية الوطنية. في إسرائيل: الدين هو أساس الدولة، ومع ذلك تُقدَّم للعالم كدولة “ديمقراطية علمانية”. إذاً… أين هي العلمانية “النقية”؟ الجواب: في الكتب فقط، لا في الواقع.
الغرب لم يتخلَّ عن الدين، بل قام بتحويله إلى رأسمال رمزي يمنح الشرعية ويبرر القرارات الكبرى. شعار “القيم المسيحية” يُستخدم لتعبئة الجماهير، ورواية “الشعب المختار” تُستخدم لدعم إسرائيل، والمؤسسات التبشيرية تتحول إلى أذرع دبلوماسية. هكذا صار اللاهوت أداة استراتيجية، بينما نحن ما زلنا نناقش: هل العلمانية كفر أم تقدم؟ المثقف العربي… أسير النص لا الواقع. المشكلة ليست في الغرب فقط، بل في من يستهلك خطابه دون أن يفككه. الكثير من المثقفين العرب ما زالوا يتخيلون أن البرلمانات مستقلة، والإعلام حر، والقرار عقلاني وعلماني، بينما الحقيقة أن البرلمان يمرر ما صيغ في أماكن أخرى: في الكنيسة، في اللوبي الإنجيلي، في الصهيونية المسيحية، في مراكز النفوذ العقائدي. الغرب لا يفصل بين الدين والسياسة… بل يفصل بين الدين الذي يُستخدم والدين الذي يُهمّش.
حين ضحك مبارك… كان يلتقط جوهر السلطة
مقولة “راحت عليكو” لم تكن مجرد سخرية من اليسار، بل تلخيص لعبارة أعمق: من لا يفهم البنية العميقة للسلطة… سينقرض ولو امتلك أرقى الشعارات. واليوم، قد نعيد إنتاج العبارة بصيغة أخرى إلى من يظنون أن الغرب علماني ومحايد: "لسه مصدقين؟" العلمانية… واجهة أنيقة لعقيدة متجذرة. لنكن صريحين: الغرب ليس ثيوقراطيًا بصيغته القديمة، لكنه أيضًا ليس علمانيًا بالمفهوم الفلسفي. هو نظام هجيني بارع؛ الظاهر: دساتير، مؤسسات، حقوق فردية، والباطن: شرعية دينية، سرديات توراتية، هوية مسيحية. العلمانية هنا مجرد “ماركة” للتصدير، بينما يجري تشغيل “النظام الديني” في الخلفية.
لماذا يجب أن نفهم هذا؟
لأنَّ من يقرأ العالم كما يُقال له… لا كما يعمل فعلاً… سيبقى تابعًا. عندها فقط نفهم: لماذا الصهيونية المسيحية أقوى من السياسات الحزبية، لماذا تُدعم إسرائيل بعقيدة لا بقانون، لماذا تتحرك أوروبا بدافع “الدفاع عن الحضارة المسيحية”. الدين لم يعد خصمًا للسياسة… بل شريكها الاستراتيجي.
الخلاصة
القضية ليست أن نكون مع العلمانية أو ضدها، بل أن نفهم حقيقتها كما تُمارس لا كما تُدرَّس. الغرب لا يعيش “فصلاً” بين الدين والدولة، بل يعيش تحالفًا مقنّعًا بينهما؛ السياسة تدير الواقع، والدين يمنح الشرعية، والبرلمان يقدّم العرض النهائي للجمهور. أما نحن فما زلنا نناقش السؤال الخطأ: هل الغرب علماني؟ بينما السؤال الأهم: أي دين يحكم الغرب… وكيف… ومتى… وضد من؟ وحين ندرك ذلك… ربما نكون نحن من يبتسم هذه المرة ويقول: "لسه مصدقين؟"