: آخر تحديث

موعد جديد مع الحياة في غزة

2
2
2

توقفت حرب السنتين في غزة بعد أن دمّرت كل مكونات الحياة في أصغر بقعة في العالم وأكثرها كثافة سكانية، بمساحتها التي لا تتجاوز 360 كيلومتراً مربعاً، ويقطنها 2.5 مليون نسمة، تصل نسبة الفقر بينهم إلى خمسين بالمئة، والبطالة تفوق السبعين بالمئة. وبعد حرب راح ضحيتها أكثر من سبعين ألف شهيد، غالبيتهم من الأطفال والنساء والمسنين، وأكثر من مئتي ألف ما بين جريح ومعاق وفاقدين القدرة على الحياة، ليتحولوا إلى عبء على أي إدارة جديدة. توقفت الحرب، ولكنها لم تنتهِ، بالرغم من حديث مبادرة الرئيس الأميركي دونالد ترامب عن السلام الدائم دون معرفة كيف سيتحقق هذا السلام.

الحياة الجديدة لها مقوماتها وشروطها ومحدداتها. وهذه الشروط تحكمها عوامل متعلقة بإسرائيل التي تتبنى خيار الحرب في علاقاتها مع غزة، وبمن يحكم غزة: حماس أم السلطة الفلسطينية الشرعية، إضافة إلى العوامل الإقليمية والدولية، فهذه الحرب تركت تداعيات تجاوزت حدودها الضيقة لتصل إلى كل العواصم العالمية وتحكم منظومة العلاقات الدولية، كما تركت تداعياتها على مستوى المنطقة العربية الحاضنة والشرق الأوسط، لتفتح الباب أمام خيار الحرب الدائمة.

فالحرب امتداد للسياسة، والسياسة تحكمها نتيجة الحرب والواقع السياسي الجديد. فعندما تفشل السياسة تكون الحرب، وحين تبدأ الحرب تكون السياسة هي المخرج والمنقذ. ومن مبادئ الحرب الثابتة ما قاله المفكر الإستراتيجي الألماني كارل كلاوزفيتز في كتابه عن الحرب: إنَّ الحرب امتداد للسياسة بوسائل أخرى. والمقصود أنه عندما تفشل الوسائل الأخرى في تسوية الخلافات والصراع، تلجأ الدول إلى الحرب. وهذا هو حال غزة، حيث فشلت السياسة في تحقيق السلام وقيام الدولة الفلسطينية وإنهاء الاحتلال الإسرائيلي ورفع الحصار عن غزة، لتذهب إلى أطول حرب عرفتها المنطقة، وهي من الحروب غير المتكافئة بين إسرائيل كدولة قوية ومدعومة من قبل أقوى دولة في العالم، الولايات المتحدة الأميركية، وبين حماس وفصائل المقاومة بأسلحتها التقليدية على أرض لا تصلح للحرب، تتحكم في كل منافذها إسرائيل.

وبالرغم من ذلك، لم تحقق إسرائيل أهدافها المعلنة حتى الآن، ولم تحقق حماس أيضاً أهدافها وأولوياتها في الحكم والبقاء، فهي حرب صفرية، لكنها من الحروب الممتدة لما وراءها إقليمياً ودولياً. فإسرائيل تعاني اليوم من العزلة الدولية، وفقدت أخلاقياتها وديمقراطيتها التي كانت تتباهى بها، وتوقفت الدول العربية عن السلام كخيار بديل للحرب دون حلٍّ لقلب الصراع الفلسطيني الإسرائيلي بقيام الدولة الفلسطينية وإنهاء الاحتلال.

أهمية غزة أنَّها المحرك والبوابة الواسعة للسلام الدائم الذي تحدثت عنه مبادرة ترامب، وأساسه إعادة بناء الحياة في غزة، والبناء هنا ليس بالإعمار المادي فقط، بل الأهم بإعادة بناء الإنسان الفلسطيني في غزة على أسس ومعايير وقيم جديدة كغيره من شعوب الأرض. وأساس الحياة الجديدة يجب أن يجسد المحددات البيئية والسياسية لغزة، وأن تكون هذه الحياة على أرضها، لا على أرض غيرها، ومن هنا جاء رفض التهجير الذي هدفت إليه إسرائيل من وراء حربها.

الحياة الجديدة تحتاج إلى بنية تعليمية وصحية حديثة وعلى مستوى من التقدم والرقي، ومنظومة تعليمية تقوم على البناء والسلام والتعايش المشترك ونبذ العنف، كما تحتاج إلى بنية اقتصادية مستقرة. فغزة، بحكم خصائصها الجيوسياسية والسكانية، لا تصلح لخيارات الحرب والقوة. وكما يقال، غزة تجارية بطبيعتها، وطبيعة سكانها تنموية مدنية تعايشية. وليكن معلوماً أن غزة، وعبر تاريخها، قدمت نموذجاً راقياً للتعايش بين سكانها المسلمين وسكانها من الأقباط، فكانت الكنيسة بجوار المسجد. وهذا النموذج هو المطلوب استعادته من جديد.

لكنَّ الإشكالية في الحياة الجديدة تكمن في إسرائيل وسياستها وخياراتها العسكرية وحصارها الدائم لغزة. فالنموذج الجديد للحياة فيها يجب أن يقدم نموذجاً تنموياً مدنياً للتعايش المشترك على مستوى العلاقة الشاملة حتى مع إسرائيل، وهذا يتطلب مقاربات للحوار والتعايش ونبذ العنف والكراهية التي أوجدتها وعمّقت جذورها حرب السنتين والحكم اليميني المتطرف في إسرائيل.

أمَّا بالنسبة إلى غزة، فينبغي أن تُدار من إدارة مدنية. ولكي يتحقق هذا الهدف وتتوفر هذه الحياة، لا بد من استئصال كل بذور الحقد والكراهية والقتل والانتقام عبر حلٍّ للصراع الفلسطيني، أساسه إنهاء الاحتلال، ومعاملة الإنسان الفلسطيني على أساس مقاربة الحقوق المتساوية مع غيره.

الحديث عن هذه الحياة الجديدة هو المقاربة الفعلية للسلام الدائم والشامل على مستوى المنطقة، وهو الاختبار الحقيقي لكل المبادرات المطروحة. وبقدر إحساس المواطن في غزة بكرامته وآدميته وإنسانيته، بقدر بلوغ وتأسيس هذه الحياة الجديدة التي تُبنى في العقول وفي البناء الفكري والعقيدي الذي يدعو إلى البناء والحياة. وهذه هي حياة غزة عبر مراحلها التاريخية، كمنطقة عابرة للتاريخ وتلاقي الثقافات والتعايش المشترك، وهي مشهورة بارتفاع نسبة تعليم أبنائها.

الإشكالية الأخرى التي تواجه الحياة الجديدة، والتي على حماس وكل الفصائل إدراكها، هي أن عملية الإعمار اليوم هي الأولوية، ولا يمكن لهذا الإعمار أن يتم مع السلاح. ونزع سلاح غزة مرهون بإعمارها وبناء الإنسان الجديد فيها، الإنسان الذي قدّم العلماء والمبدعين في كل مكان. ويكفي أن نذكر هنا نموذج الدكتور عمر ياغي، أستاذ الكيمياء الحاصل على جائزة نوبل للكيمياء، المولود في غزة.

ويبقى أنَّ هذه الحرب قلّصت الخيارات إلى خيارين: إما الحرب والفناء الكامل، وإما الإعمار والبناء والإنسان الجديد.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.