: آخر تحديث

العراق وكرة القدم: حين تتحول "الفزعة" إلى نظرية كونية للفشل

6
4
4

يبدو أن العراقيين سيظلون يقرأون في فناجين القهوة قبل كل تصفيات، يبحثون عن إشارة من المجهول تؤكد أن المنتخب هذه المرة "مختلف"، وأن "الأمل قادم"، وأن "جيلنا ذهبي"، كما اعتادوا القول منذ أيام كانوا يعلقون صور نجوم الكرة على الجدران. لكن الواقع، مثل الحكم الياباني في مباراة فاصلة، لا يرحم أحداً. لقد فشل المنتخب العراقي في التأهل إلى كأس العالم مجدداً، ليس لأن الكرة مستديرة، بل لأن العقول التي تديرها ما زالت مربعة، تحكمها نظرية "الفزعة" لا نظرية اللعبة الحديثة. من يشاهد ما يجري في كواليس الرياضة العراقية لا يحتاج إلى تحليل تكتيكي، بل إلى طبيب نفسي. فالكرة في العراق لم تعد رياضة، بل طقساً جماعياً لتفريغ القهر الوطني، وجسر عبور نحو المناصب، والامتيازات، والسفرات، والمكافآت. اتحاد كرة القدم تحوّل إلى غنيمة مقدسة، يتصارع عليها الجميع كما يتصارع عشاق "المنسف" على آخر قطعة لحم. لا أحد يريد أن يفهم أن كرة القدم اليوم لم تعد هواية الحارات، بل منظومة علمية تحتاج إلى إدارة وبيانات واستراتيجية، لا إلى قصائد حماسية عن "أسود الرافدين" الذين يفترسهم بيروقراطيو الرياضة قبل أن يواجهوا خصومهم في الملعب.

منذ عقود، نعيش النتيجة نفسها مع تغيير طفيف في السيناريو. كل دورة تصفيات تبدأ بالوعود وتنتهي بالدموع. نبدأ بحملة "نثق بكم يا أبطال"، ثم تمر الهزيمة الأولى فنقول "ما زال الأمل قائماً"، ثم نتعادل في الثانية فنبرر بأنَّ "المدرب يحتاج وقتاً"، ثم نخسر الثالثة فنبدأ بالبحث عن شماعة نعلّق عليها الفشل؛ الحكم، الطقس، الإصابات، المؤامرة الآسيوية، أو حتى "الطالع السيئ". أمَّا المشكلة الحقيقية، وهي غياب الفكر العلمي والتخطيط الاستراتيجي، فلا أحد يقترب منها لأن ذكرها يُعدّ خيانة وطنية. إن من يتأمل سلوك الإداريين والمدربين واللاعبين يدرك أن الكرة العراقية تدار بالعاطفة لا بالعقل، وبـ"الفزعة" لا بالمنهج. فحين يعلن أحدهم ترشحه لرئاسة الاتحاد، تنطلق جيوش من المصفقين تمجده كأنه المنقذ القادم من كوكب فيفا، وحين يخسر، يتحول في اليوم التالي إلى خائن ومتآمر. إنها أخلاق السوق لا أخلاق الرياضة. الجميع يصرخ: "نريد الإصلاح"، لكن ما أن تُفتح أبواب الاتحاد حتى يتحول "الإصلاح" إلى مشروع شخصي للوجاهة، والسفر على نفقة الدولة، وافتتاح الأكاديميات الوهمية التي لا تُخرج إلا صوراً على إنستغرام.

لقد تحولت كرة القدم العراقية إلى ميدان للمنافع لا للمواهب. ميزانيات تُهدر، وسفرات إلى المعسكرات الخارجية التي تشبه الرحلات السياحية أكثر من كونها استعداداً جاداً. مكافآت تُوزع بسخاء بعد الفوز اليتيم، بينما المدارس الكروية تفتقر إلى الكرات والملاعب والمدربين الأكفاء. كل شيء في المنظومة يدار على قاعدة "الفزعة": نبحث عن مدرب أجنبي بسرعة، نستدعي لاعباً مصاباً لأنه "عنده غيرة"، نغير التشكيلة قبل المباراة بساعتين لأن الجمهور غاضب على تويتر. إنهم يريدون الوصول إلى كأس العالم بعقلية "المضايف"، حيث الكلمة العليا لصوت العشيرة لا لصوت العلم.

والأدهى من ذلك أن الجمهور نفسه وقع في فخ "الدراما الوطنية". كل خسارة تتحول إلى مأتم، وكل فوز يتحول إلى نصر إلهي. لا أحد يسأل: ماذا تعلمنا؟ كيف نبني جيلاً جديداً؟ بل يتسابق الجميع في جلد اللاعبين والمدربين واتهامهم بعدم الوطنية، وكأن الوطنية تقاس بعدد الأهداف لا بعدد الإصلاحات. أما النقاد الرياضيون فحدث ولا حرج: بعضهم لا يفرق بين خطة 4-3-3 ورقم هاتفه، لكنه يتحدث عن "الفلسفة التكتيكية" كما لو كان يورغن كلوب في قناة بدوية. إن مأساة الكرة العراقية ليست في خسارتها، بل في يقينها بأنها لا تخسر أبداً. نحن نعيش في زمن إنكار جماعي: كل فشل هو مؤامرة، وكل إخفاق هو سوء حظ، وكل إدارة فاسدة هي "ضحية الإعلام". إنهم لا يدركون أن كرة القدم في العالم باتت علماً دقيقاً يُدرس في الجامعات، وتحلل فيه البيانات والأرقام، ويُقاس فيه الأداء بالميليمتر، بينما نحن ما زلنا نؤمن بأن "القميص العراقي له هيبة"، وأن "الغيرة" كافية لهزيمة اليابان وكوريا.

لقد أصبحت كرة القدم في العراق مرآة للمجتمع: صراعات، محسوبية، تسييس، وفساد مقنن. كل نادٍ يمثل طائفة أو جهة، وكل مدرب له داعمون من وراء الستار، وكل قرار يُطبخ في مطبخ العلاقات لا في مختبر الأداء. اتحاد الكرة صار مؤسسة لتوزيع الغنائم، لا لبناء الرياضة. حتى الإعلام الرياضي، الذي يفترض أن يكون سلطة رقابية، انغمس في حفلة المجاملات، فصار بعض المعلقين يذرفون الدموع على الهواء، لا حزناً على الخسارة، بل شوقاً إلى دعوة في مؤتمر صحفي ممول من الاتحاد.

إن كرة القدم، في جوهرها، فلسفة في التنظيم قبل أن تكون استعراضاً في الميدان. لكننا حولناها إلى مأساة دائمة. فكلما خرجنا من التصفيات، نبدأ من جديد: نحلّ الاتحاد، نعيد تشكيله، نأتي بمدرب أجنبي جديد، ثم نطرده بعد ستة أشهر بحجة أنه لم "يفهم عقلية اللاعب العراقي". كأن العقلية العراقية معضلة كونية تحتاج إلى عالم أنثروبولوجيا لا إلى مدرب. وهكذا تستمر الدائرة: وعود، فشل، بكاء، لجان تحقيق، ثم فشل جديد.

أمَّا الجمهور المسكين، فهو يحيا على فتات الأمل، يرفع شعار "جيلنا قادم"، ولا يدرك أن الجيل القادم يولد في مدارس بلا ملاعب. ولعل الطرافة المريرة أن الجميع يطمع بنصيبه من "كعكة الكرة": السياسي يريد صورة مع المنتخب ليكسب أصواتاً، ورجل الأعمال يريد عقد رعاية، والإعلامي يريد مقابلة حصرية، واللاعب السابق يريد منصباً، والمشجع يريد أن يفرغ غضبه من الحياة اليومية في مباراة. وهكذا تتحول اللعبة إلى حلبة صراع، لا إلى مشروع وطني. كل شيء فيها محسوب بالمصالح، حتى دموع الهزيمة لها سعر في الإعلام.

إنَّ إصلاح الكرة العراقية لا يبدأ من المدرب ولا من اللاعبين، بل من تفكيك العقل الجمعي الذي يعتقد أن الفوز يولد من الحماس، لا من التخطيط. فالعلم هو الذي يصنع الفرق، والمنهج هو الذي يصنع البطولات. لكن من أين يأتي المنهج ونحن نعيش في بيئة تحتقر المتخصص وتقدس الارتجال؟ في العراق، إذا اقترحت برنامج تطوير علمي، قالوا عنك "منظر أكاديمي لا يعرف الميدان"، وإذا صرخت من قلب الميدان قالوا "هذا لا يفهم الإدارة". والنتيجة: لا الميدان ينجح، ولا النظرية تُطبّق. لقد حان الوقت لنسأل أنفسنا بصدق: هل نريد التأهل فعلاً؟ أم أننا نريد أن نبقى في حالة دائمة من الفشل المبرر، كي يستمر الجميع في التربح من "مشروع الحلم الوطني"؟ فالفشل، كما يبدو، أصبح صناعة وطنية مربحة. كل إخفاق يبرر ميزانية جديدة، وكل هزيمة تفتح باباً للتعيينات والمؤتمرات. كأننا نقول لأنفسنا: لِمَ ننجح؟ النجاح يغلق أبواب المكاسب، بينما الفشل يفتحها على مصراعيها.

وهكذا، تبقى كرة القدم العراقية أسيرة عقلية "الطراد"، حيث كل مباراة تشبه سباق زوارق بلا بوصلة، يقودها طاقم يصرخ أكثر مما يفكر. أما الخصوم، فهم يسيرون وفق برامج علمية مدروسة، من الأكاديميات إلى التحليل الإحصائي. وبينما نغني "مو مهم النتيجة، المهم الأداء"، يبتسم العالم برفق ويواصل طريقه نحو كأس العالم، تاركاً لنا شرف الحديث عن "الأخطاء التحكيمية" و"هيبة الشعار الوطني". في النهاية، سيبقى العراقيون يحبون كرة القدم، لكنهم لن يروا منتخبهم في المونديال ما داموا يرفضون رؤية الكرة كمرآة للواقع. فكما أن الدولة لا تُبنى بـ"الفزعة"، كذلك المنتخب لا يتأهل بها. وحتى يدرك صناع القرار أن الملعب يحتاج إلى علم لا إلى شعارات، سنظل نغني بعد كل تصفيات الأغنية ذاتها: "كنا الأقرب... لكن الحظ خاننا". ولعل الحظ، المسكين، قد سئم هو الآخر من أن يُتهم بما لم يفعل.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.