في عالم السياسة والإعلام العربي، كثيرًا ما تتجلى ظاهرة القطعان الصوتية التي لا تكف عن الضجيج، محاولةً عبر تكرار العبارات والشعارات أن تصنع لنفسها حضورًا وتأثيرًا. لكنها في اعتقادي ليست سوى أصوات خاوية، لا تحمل مشروعًا ولا تمتلك رؤية، بل تقتات على لحظات الصراخ وتظنها مجدًا. أليس غريبًا أن تتحول الجموع في بعض العواصم العربية إلى مجرد ميكروفونات بشرية، تصرخ لإرضاء أسيادها أو لتلميع أنظمة متخشبة فقدت كل اتصال بالواقع؟
هذه الظاهرة بلا شك ليست مجرد ثرثرة عابرة، بل هي انعكاس لبنية نفسية وسياسية مشوهة، تتغذى على عاملين متداخلين، ضعف الفكر السياسي الذي جعل الصوت العالي بديلاً عن الحجة، والارتهان للخارج الذي حوّل بعض الجماعات إلى أبواق مأجورة. وهكذا يصبح "النباح" – كما يسميه الموروث الشعبي – وظيفة مقررة مسبقًا لا رأيًا حرًا. وهنا يبرز السؤال المرير... كيف تسمح المجتمعات لنفسها بأن تُدار بهذا القدر من الخفة، فتستسلم للضجيج وتطرد العقل من ساحة النقاش؟
لكنَّ هذه الأصوات كما أرى لم تولد من فراغ، بل خرجت من رحم واقع عربي مأزوم، حيث تتضافر أنظمة رجعية دكتاتورية وعقيمة مع مجتمعات متخلفة لتوليد بيئة خصبة لهذه الآفات. ولعل التجربة التاريخية تكشف أن الأنظمة الدكتاتورية السابقة كانت الأشد حرصًا على صناعة هذه الأصوات، بل وتغذيتها بالمال والهدايا والعطايا، وكم من الملايين صُرفت سنويًا على رشوة كتاب وصحافيين ومؤسسات إعلامية، ليتحولوا إلى جوقة مديح لا تهدأ؟ أليس مشهدًا مأساويًا أن تُشترى الأقلام العربية كما تُشترى السلع في الأسواق؟
ففي العراق مثلًا، خلال حكم صدام حسين، تحولت الصحافة إلى منبر للتهليل بخطاباته النارية ضد دولة إسرائيل واشهرها حرق نصف إسرائيل والتي دفع ثمنها غاليا عليها بكمية عنجهيته وغباءه المفرط الذي دمر فيه بلده. وفي ليبيا، لم يكن المشهد مختلفًا، إذ أغدق القذافي، المعروف بخطابه الشعبوي المتقلب، على كتاب وصحافيين في مؤتمرات اللجان الثورية، ليصوّروه بوقاحة على أنه قائد الأمة ورمز التحرر، فأي عطب أخلاقي أكبر من أن تتحول الأقلام إلى أدوات تلميع دكتاتوريات دمّرت أوطانها؟ إنه المال والمصلحة أيها السادة وليست المبادئ او الاخلاق.
بلا شك الإعلام الموجه في المنطقة يغذي هذه القطعان عبر تضخيمها وإعطائها مساحات تفوق حجمها، محوّلًا الضوضاء إلى رأي عام مُصطنع. وهكذا يصبح المواطن العادي محاصرًا في واقع مشبع بالشعارات، عاجزًا عن التمييز بين الحقيقة والزيف.
فحين تصنع الأنظمة الاستبدادية أدواتها الصوتية، وتستثمر فيها بوصفها جدارًا واقيًا ضد النقد، فإنها في تقديري لا تدرك أنها تغرس مزيدًا من التخلف في البنية المجتمعية. وما يتبقى هو صورة سريالية، لشعوب يعلو فيها الصراخ أكثر من أي فعل، وأنظمة تتباهى بالضجيج وكأنه إنجاز سياسي.
و كما أرى إذا كان الماضي قد شهد شراء الأقلام بالهدايا والعطايا، فإن الحاضر يكشف عن نسخة أكثر بؤسًا عبر شبكات التواصل الاجتماعي. هنا ظهر ما يُعرف بـ"الذباب الإلكتروني"؛ جيوش افتراضية مهمتها الأساسية مهاجمة الأصوات المعارضة، وتكرار الخطاب الرسمي، وصناعة رأي عام زائف يقود الجماهير إلى الوهم. غير أن الفضيحة الكبرى تكمن في مستوى هذا الذباب نفسه، كتاباته ركيكة، مليئة بالأسلوب الدعائي المتكرر، ما يُضعف مصداقيتها.
أليس هذا انعكاسًا صريحًا لحالة التخلف المزرية التي تعيشها الأنظمة التي تموله؟ بل إن إيران اليوم، ومعها خلايا التنظيمات الإرهابية التي ترعاها في العراق ولبنان واليمن وغزة، باتت نموذجًا صارخًا لذلك. آلاف الحسابات الوهمية تُدار يوميًا لمهاجمة كل معارض، لتبرير جرائم الميليشيات وتبييض وجه القمع، لكنها في الحقيقة لا تفعل سوى فضح قبح أنظمتها وكشف هشاشتها للعالم بأسره.
يظن هؤلاء المرتزقة الرقميون أن الاختباء خلف الشاشات واستخدام معرفات مجهولة يمنحهم حصانة أبدية، لكنهم واهمون، فمنذ اللحظة التي دخلوا فيها الشبكة العنكبوتية، فقدوا خصوصيتهم إلى الأبد، لم يعودوا مجهولين، بل أصبحوا أهدافاً مباحة، وملفاتهم مفتوحة، وبصماتهم الرقمية موثقة، المسألة ليست ما إذا كانوا معروفين أم لا، بل متى سيُدفع الثمن، وكم سيكون فادحاً.
إن خطورة هذه القطعان، سواء أكانت على الورق أو في الفضاء الرقمي، في اعتقادي أنها تحولت إلى نوع من "الإرهاب الفكري الناعم، إذ تُطلق أحكامها المعلّبة على كل صوت مستقل، وتحوّل أي نقد إلى خيانة. وهذا بدوره يكرس حلقة التخلف، فالمجتمع الذي يُرهب مثقفيه، ويخنق مفكريه، ويُطلق العنان لأصوات الجهلاء والمتزلفين، إنما يحكم على نفسه بالبقاء في ذيل الأمم. ومن هنا، يمكن القول إن هذه الظاهرة ليست مجرد انعكاس لأمراض فردية، بل هي بنية متكاملة من الانحطاط السياسي والاجتماعي، ترعاها أنظمة فاسدة وتجد جمهورها الطبيعي في مجتمعات لم تتحرر بعد من أمية ثقافية خانقة.
النظام الدولي الجديد بلا شك بات يقرأ هذه الظاهرة بوضوح أكبر، فالقطعان الصوتية والذباب الإلكتروني لم تعد تمر مرور الكرام، بل أصبحت تُعامل كملفات أمنية تُخضع أصحابها للعقوبات والملاحقة. المفارقة أن الأنظمة التي طالما استندت إلى هذه الجيوش الافتراضية لتغطية عجزها وجدت نفسها في مرمى النظام الدولي، مكشوفة ومعزولة. لقد أصبحت هذه الأصوات، التي طالما زعمت تمثيل الأمة والجماهير، مجرد أدوات مؤقتة تُستخدم ثم تُرمى في سلة المهملات.
في تقديري إن القطعان العربية التي تعيش على الترديد والنباح، سواء في الساحات أو على الشاشات أو في فضاء الإنترنت، تمثل الوجه الأكثر بؤسًا لتخلف المنطقة. فهي دليل حي على أن الأنظمة الرجعية ما زالت تراهن على الضجيج بدلًا من الفعل، وعلى الولاء الأعمى بدلًا من النقد البنّاء، وعلى إدامة الأمية بدلًا من إشاعة المعرفة. وفي النهاية، يظل مصير هذه الأصوات محتومًا: الانقراض أمام لحظة الحقيقة، حيث لا صوت يعلو فوق صوت التاريخ. فالتاريخ لا يخلّد الضوضاء، بل يخلّد من يمتلك مشروعًا ورؤية وقدرة على البناء، أما البقية فمصيرهم أن يُدفنوا تحت الركام الذي صنعوه بأصواتهم.