كانت بيروت يوماً تُدعى "باريس الشرق"... كانت شرفة على البحر تتنفس أحلام المثقفين، وتتراقص على إيقاع القصائد في مقاهي الحمراء والزهور. أما اليوم، فقد أصبحت ذكرى تائهة بين أنقاض الذاكرة، بينما تنهض أبوظبي من رمال الصحراء لترسم بأضوائها سماءً جديدة للعرب.
بيروت: سيرة مدينة تئن تحت وطأة المحاصصة
لم يكن سقوط بيروت حدثًا مفاجئًا، بل تراكمت مآسيها منذ الحرب الأهلية. فقد تحوّلت المحاصصة الطائفية من نظام حكم إلى ثقافة مجتمعية تخنق الإبداع وتقتل الطموح. وفق مؤشر الشفافية الدولية 2024، احتل لبنان المرتبة 138 عالميًا في مكافحة الفساد، وهو رقم يعكس عمق الأزمة المؤسسية.
يقف المواطن اللبناني اليوم على مفترق طرق: إما أن يغترب بحلمه، أو يبقى ليصارع الواقع. الجامعات التي كانت منارات الفكر الحر، أصبحت أسيرة القيود، والإعلام الحر الذي كان صرخة الحقيقة، أصبح همسًا خافتًا بين ضجيج الولاءات.
الدكتورة اللبنانية ليلى منصور تقول: "كنا نكتب عن بيروت في الماضي، واليوم نكتب عنها بصيغة الماضي".
أبوظبي: قصة صحراء تحوّلت إلى واحة ثقافية
على الطرف الآخر، تتقدم أبوظبي بخطى ثابتة وحكمة استراتيجية. فـ"رؤية الإمارات 2071" لم تكن مجرد شعار، بل منهج حياة يجعل الإنسان محور التنمية. وفق تقرير التنمية البشرية للأمم المتحدة 2023، تحتل الإمارات المركز الأول عربيًا، وهو انعكاس لاستثمار الدولة في رأس المال البشري والتخطيط المستقبلي.
يقول الدكتور خالد بن محمد: "لم نبنِ الأبراج قبل المكتبات، ولم نزرع الأسمنت قبل الأشجار".
تتجسد هذه الفلسفة في مؤسسات ثقافية رائدة مثل متحف اللوفر أبوظبي وجائزة الشيخ زايد للكتاب، التي أصبحت نوبل الثقافة العربية، وفي مبادرات تعليمية مبتكرة من مدارس الأجيال إلى جامعة خليفة للتقنيات المتقدمة، حيث أصبح التعليم رحلة اكتشاف وفرص ابتكار.
تبدّل الأدوار: من هروب من الصحراء إلى هروب إليها
مفارقة تاريخية عميقة – في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، كان الإماراتيون يأتون إلى بيروت هرباً من حر الصحراء وقسوة العيش، يبحثون عن التعليم والعلاج والثقافة في "باريس الشرق". أما اليوم، فالأدوار انقلبت رأسًا على عقب. أصبحت أبوظبي وجهة اللبنانيين الهاربين من انهيار بلادهم، يستوردون كفاءاتهم وأحلامهم إلى واحة الأمان الإماراتية.
هذه المفارقة ليست صدفة، بل هي نتيجة خيارات متراكمة. الإماراتيون حوّلوا صحراءهم إلى جنة بالعمل والمثابرة والإخلاص للوطن، بينما اللبنانيون – بالرغم من كل إمكاناتهم – سمحوا لجنتهم أن تتحول إلى صحراء بفعل الولاءات الضيقة والفساد.
مقارنة المصائر: عندما تلتقي الحلم بالواقع
في أبوظبي، أصبحت الكفاءة معيارًا والجدارة أساسًا، فالتعليم رحلة اكتشاف من "مدارس الأجيال" إلى "جامعة خليفة" للتقنيات المتقدمة، بينما الإعلام الحر مدعوم ومؤثر، والثقافة تزدهر عبر مبادرات قوية وراسخة، والإدارة تتسم بالكفاءة والشفافية. أما في بيروت، فيستمر الانتماء الطائفي كبوابة رئيسية، والتعليم لا يزال مثقلاً بالمناهج المتخلفة والآمال المهاجرة، والإعلام الحر محدود التأثير، والثقافة تعاني من ضعف المبادرات، والإدارة تتخبط في المحاصصة الطائفية. في الواقع، استطاعت الإمارات تحويل التحديات إلى فرص ملموسة، بينما حوّل لبنان الفرص إلى أزمات مستمرة.
أصوات من الميدان
الأستاذ الدكتور أحمد الظاهري، خبير اقتصادي إماراتي، يقول: "الاستثمار في الثقافة ليس ترفًا، بل أساس البقاء في عصر العولمة".
من باريس الشرق إلى فينيسيا الصحراء
الفرق بين المدينتين هو الفرق بين من ينظر إلى النجوم ومن يحفر في الرمال. أبوظبي اختارت أن تبني إنسانًا يبني وطناً، بينما بيروت اختارت أن تبني زعيمًا يبني زعيمًا.
السؤال الذي يبقى معلقًا: كم من "باريس الشرق" علينا أن نخسر قبل أن نتعلم من "فينيسيا الصحراء"؟
وختامًا: نحن بحاجة لمدن تؤمن بالإنسان قبل الزعيم، لتظل الحضارة حية.