دعونا نتفق أولًا، وبدون لف أو دوران، هذا العالم لم يعد يحب المستقرين، لا الوقت يسمح بذلك، ولا الطقس، ولا الزحمة، كل شيء يتحرك، يتبدل، يذوب.
فكرة الاستقرار؟ هذا المفهوم الجميل الذي كانت جدتك تصفه بأنه "راحة البال"؟ ذلك الشعور الغامض بأنك تعرف من أنت، وتعرف ما يجب أن تفعله غدًا؟
في الحقيقة في أيامنا هذه... تم وضعه على الرف، بجانب أشياء أخرى انقرضت مثل "الكاسيت والووكمان، والتليفزيون الأبيض والأسود".
في العصور القديمة – أعني أيام أفلاطون وأرسطو وليس أيام الأبيض والأسود – كان الاستقرار مرادفًا للحكمة، بل وغاية الفلاسفة؛ العالم المادي؟ هراء في رأي أفلاطون، العالم الحقيقي هناك… في السماء، حيث كل شيء ثابت، كل شيء ينتظر، ولا أحد يركض، أما أرسطو، فقد كان مؤمنًا أن كل شيء يتحرك نحو كمال ما، الحركة ليست فوضى، بل خطة هادئة للغاية – فقط نحن من لا نملك الصبر لنراها.
ثم جاء العصور الوسطى، والاستقرار صار مرادفًا للإيمان… من صلّى وحافظ على صلة الرحم وبقي في قريته الصغيرة، ضمن الجنة وربما وظيفة حكومية أيضًا. كل شيء مرتب، كل شيء له مكانه.
لكن الحداثة – ذلك الوحش ذو الأسنان الفلسفية – قررت أن تعيد الأمور إلى نصابها، مع ديكارت ولوك وسبينوزا، صار العقل هو الحاكم بأمره، الاستقرار أصبح عقلانية، خطة مدروسة، تنظيم اجتماعي لا يقبل العشوائية ولكن بشرط واحد صغير: أن تقبل أن ما لا يتغير هو "القاعدة"، وكل فوضى هي مجرد انحراف مزعج سيزول.
ثم... جاء القرن العشرون، وقال لنا: "ضحيت كثيرًا؟ خذ هذا القلم على وجهك"، ظهرت مفاهيم مثل "الحداثة السائلة" – أود أن أشكر باومان الذي قتل الأمل في نفوسنا بلطف كمداعبة ليس أكثر... يقول باومان – بصوت خفيض كأنّه يخجل من صدقه – إن العالم فقد قواعده، لا أسر، لا دول وطنية بمعناها القديم، لا وظائف دائمة، ولا حتى صداقة حقيقية دون واي-فاي، كل شيء مؤقت، حتى أنت.
الهوية؟ تلك الكلمة التي يحبها أساتذة علم النفس؟ تحولت إلى كود، ومساحة في السوشيال ميديا، وفلتر على سناب شات، لا أحد يعرف من هو، لكنه يعرف كيف يبدو في "الريلز"، وهذا للأسف كافٍ مؤقت.
ومع كل هذا، لا يزال الإنسان – أنت وأنا – يتصرف كما لو أن الاستقرار أمر متاح في قائمة الطلبات، كلنا نحلم ببيت، وعمل، وعلاقة لا تنهار في أول تحديث للواتسآب، لكننا لا نعيش في عالم يسمح بذلك.
حتى الفلاسفة الأكثر تفاؤلًا، مثل يورغن هابرماس، حاولوا أن يقولوا: "توقف، ربما هناك أمل… من خلال الحوار"، لكن المشكلة أن الحوار نفسه صار يتم عبر الرموز التعبيرية والصراخ النصي في تعليقات اليوتيوب. المجتمع الذي يقوم على التفاهم؟ يا له من خيال جميل.
الأسرة تنهار، المدارس تخرج أجيالًا لا يعرفون أنفسهم، والدين لم يعد مصدر اليقين بل ساحة للجدال السياسي، في هذا الطوفان الإنسان يتحول إلى مخلوق مذعور، يبحث عن نقطة ثبات كما يبحث الضائع في البحر عن عوامة. وكلما اقترب من واحدة، اكتشف أنها إعلان لشركة شحن سريع.
وبينما يشتاق الإنسان إلى الثبات، يعاقبه السوق على هذا الحنين، الشركات تريد موظفًا قابلًا للفصل، العلاقات تفضل التجدد، والتكنولوجيا تغير القواعد كل أسبوعين، حتى الحب صار يشبه "العرض المحدود" – ينتهي بعد 14 يومًا ما لم يتم التجديد تلقائيًا.
هل انتهى الأمل؟ لا أعتقد. فهناك من يقاوم - نعم، هناك فلاسفة وعشاق البطء، أولئك الذين يشربون القهوة على مهل، ويقرأون كتبًا من ورق، ويعتقدون أن السعادة الحقيقية تكمن في ألا تفعل شيئًا أحيانًا، فكرة مجنونة... أعلم.
وهناك مفكرون يرون أن الاستقرار ليس أن تتجمد، بل أن ترقص وسط الفوضى دون أن تفقد توازنك، أن تحافظ على نفسك، ولو كتميمة صغيرة، وسط عاصفة من التحديثات والتغييرات، أن تبني داخلك – كما قال بول ريكور – سردك الخاص، أن تكون قصة، لا حجرًا.
الاستقرار اليوم؟ إنه ليس مكانًا، ولا وظيفة، ولا علاقة. إنه مهارة، أن تحافظ على صوتك الداخلي وسط الضجيج، أن تبني لنفسك كوخًا صغيرًا داخل العاصفة، وتجلس فيه... تقرأ هذا الكلام مثلًا.
إنَّ الاستقرار الحقيقي؟ هو أن تعرف من أنت، ولو للحظة، أن تتصالح مع التغير، وتفهم أن الثبات الكامل كذبة اخترعها القدماء لأنهم لم يجربوا الإنترنت بسرعة الجيل الخامس.
ابتسم… العالم يتغير، وهويتك قد تكون غير واضحة، لكنها ما زالت أنت.