: آخر تحديث

كيف تتعاطى النخبة السياسية العراقية مع مفهوم السياسة؟

1
1
1

تُعدّ السياسة في معناها الأصيل فناً للحكم وإدارة الدولة، وفضاءً لتنظيم العلاقات بين السلطة والمجتمع من أجل تحقيق الخير العام. غير أنّ النخبة السياسية العراقية، منذ عام 2003 وحتى اليوم، قدّمت نموذجاً ملتبساً في تعاملها مع هذا المفهوم، إذ تحوّلت السياسة في الممارسة الواقعية من فنٍّ في الحكم إلى صراعٍ دائم على الغنيمة والهيمنة، ومن بحثٍ عن العدالة إلى تنازعٍ على الامتيازات والمناصب. ولتبيان عمق هذا الخلل، من الضروري أن نقرأ المسألة ضمن أفقٍ فلسفي وتاريخي، يربط بين تطور الفكر السياسي من الإغريق إلى الحداثة، وبين تحولات الدولة والسيادة في زمن العولمة، ثم نحلل الكيفية التي انعكست بها هذه المفاهيم على الأداء السياسي للنخب العراقية، من خلال منظومة السلطة والشرعية والحرية.

السياسة بين الفن والصراع والعدالة
عرّف الإغريق السياسة على أنها علم إدارة المدينة polis، أي القدرة على تحقيق الانسجام بين الحاكم والمحكوم. رأى أفلاطون في "الجمهورية" أن السياسة هي فنّ قيادة النفس والمجتمع نحو العدالة، بينما اعتبر أرسطو في "السياسة" أن الإنسان كائن سياسي بطبعه، وأن الغاية من الدولة هي تحقيق الحياة الفاضلة. بهذا المعنى، كانت السياسة سعيًا نحو الخير العام، لا مجرد ممارسة للسلطة. لكن مع الحداثة، تغيّر جوهر الفكرة؛ فهوبز في "اللفياثان" جعل السياسة عقداً بين الأفراد لحماية الذات من الفوضى، بينما صاغ لوك وروسو فكرة "العقد الاجتماعي" بوصفها توازناً بين السلطة والحرية. أمّا ماركس، فقد قلب المعادلة تماماً، فاعتبر السياسة انعكاساً لبنية الصراع الطبقي، وأداة بيد الطبقة المهيمنة لتكريس مصالحها. وهكذا تبلورت ثلاث مقاربات كبرى: السياسة كفن للحكم (الأفلاطونية والأرسطية)، والسياسة كصراع على السلطة والمصلحة (من ميكافيللي إلى ماركس)، والسياسة كبحث عن العدالة والخير العام (من روسو إلى راولز). إذا أسقطنا هذه المقاربات على التجربة العراقية المعاصرة، نجد أنّ النخبة السياسية تعاملت مع السياسة بوصفها مجالاً للصراع لا مجالاً للفكر أو القيم. فالفعل السياسي بعد عام 2003 لم ينبنِ على رؤية أخلاقية أو مشروعٍ وطني جامع، بل على منطق اقتسام النفوذ بين مكوّنات طائفية وعرقية، جعلت من السياسة آلية لتوزيع السلطة لا لإدارة الدولة.

الدولة العراقية في زمن العولمة وإعادة تعريف السيادة
العولمة، كما يصفها الفكر السياسي الحديث، أعادت تعريف مفهوم السيادة. لم تعد الدولة القومية الفاعل الأوحد في النظام الدولي، إذ صارت تتقاطع مع قوى أخرى: منظمات دولية، وشركات عابرة للقوميات، وحركات اجتماعية عابرة للحدود. وفي العالم العربي، والعراق خصوصاً، تحوّلت هذه الظاهرة إلى عامل مضاعِف للأزمات بدل أن تكون قوة تحديث. الدولة العراقية، بعد عام 2003، واجهت تحديات معقدة: سلطة منقوصة، اقتصاد ريعي، ومجتمع منقسم. وبفعل التدخلات الخارجية، صار مفهوم السيادة نفسه هشّاً، إذ تداخلت الإرادات المحلية مع الإقليمية والدولية، ما جعل القرار السياسي العراقي محكوماً بتوازنات خارجية أكثر مما تحكمه المصالح الوطنية. بذلك، فقدت الدولة قدرتها على أن تكون فاعلاً سياسياً مستقلاً، وتحولت النخبة الحاكمة إلى وسيط بين الداخل والخارج، تستخدم خطاب "الوطنية" لتبرير ممارساتٍ تقوم في الواقع على منطق الولاء الفئوي. من هنا يمكن القول إن النخبة السياسية العراقية فشلت في تطوير مفهوم "السيادة الديمقراطية"، أي سيادة الإرادة الوطنية عبر مؤسسات شرعية مستقلة. فهي ما تزال تعمل بمنطق الدولة "الهشة" التي تحدث عنها منظرو الجنوب العالمي، حيث تتفوق الولاءات الطائفية والعشائرية على الانتماء الوطني.

التفاعل السياسي بين الأيديولوجيا والمجتمع المدني
في النظرية السياسية الحديثة، تُفهم السياسة بوصفها شبكة تفاعلية بين مؤسسات الدولة والمجتمع المدني والأحزاب والإعلام والرأي العام. غير أنّ هذه العناصر لم تكتمل بعد في العراق. فالأحزاب العراقية لا تُمارس السياسة كفنٍّ لتنظيم المصالح العامة، بل كأداة للتمكين الطائفي أو القبلي. الإعلام، في أغلبه، منحاز ومموّل من القوى الحزبية نفسها، والمجتمع المدني ما يزال ضعيفاً ومخترقاً من الأجهزة السياسية. الأيديولوجيات التي تحكم السلوك السياسي العراقي تجمع بين نزعات متناقضة: ليبرالية لفظية ترفع شعار الديمقراطية، ومحافظة اجتماعية ودينية ترفض قيمها في العمق، مع حضورٍ متزايد لتيارات تسعى إلى إعادة تعريف الدولة وفق تصورات دينية أو عرقية. هذا التناقض جعل من السياسة العراقية مزيجاً غير متجانس بين الليبرالية الشكلية والماركسية المشوهة والمحافظة التقليدية. الليبرالية هنا لا تُترجم إلى حكم القانون أو احترام الحريات، بل إلى تبرير السوق الفوضوي والخصخصة غير المنضبطة. أما المحافظة فليست حفاظاً على القيم، بل تمسّكاً بالسلطة بحجة حماية "التوازن الاجتماعي". والاشتراكية تحولت إلى شعار يستخدمه بعض السياسيين لتبرير برامج الرعاية من دون بنية إنتاجية حقيقية. بهذا المعنى، غابت الرؤية الأيديولوجية الواضحة، وحلّ محلها خليطٌ من الشعارات المتناقضة التي تُستخدم لخدمة المصالح لا للمبادئ.

آلة الدولة العراقية بين السلطة والشرعية والحرية
إنَّ فهم السياسة، كما يذهب منظرو الفكر السياسي، يعني فهم العلاقة بين ثلاثية السلطة والشرعية والحرية. فالسلطة بدون شرعية تتحول إلى استبداد، والحرية بدون سلطة تصبح فوضى، أما الشرعية فهي ما يمنح الدولة القدرة على الاستمرار. في العراق، تعيش هذه الثلاثية أزمة مزمنة. السلطة موزعة بين مراكز متعددة: الحكومة المركزية، الأحزاب، الميليشيات، والمؤسسات الدينية. هذا التعدد لم يؤدِّ إلى التوازن، بل إلى التنازع. الشرعية الانتخابية نفسها موضع شك، بسبب الفساد وضعف الثقة الشعبية بالمؤسسات. أما الحرية، فقد ظلت محصورة في الهامش الإعلامي أو في التعبير الفردي، دون أن تتحول إلى ثقافة مدنية راسخة. الأنظمة الديمقراطية الحقيقية، كما في النماذج التمثيلية أو التداولية، تقوم على مبدأ المساءلة والشفافية. لكن في العراق، تحوّل النظام الديمقراطي إلى واجهةٍ لسلطة زبائنية تُعيد إنتاج ذاتها عبر التحالفات الطائفية. أما الدولة، فهي ليست نظاماً ثابتاً من المؤسسات كما في النماذج الأوروبية الحديثة، بل كيانٌ متغير تحكمه موازين القوة بين الفاعلين السياسيين. وهكذا، تبقى الشرعية السياسية مؤقتة، رهينة التوافقات أكثر مما هي مستندة إلى عقد اجتماعي راسخ.

من النظرية إلى الواقع؛ السياسة كأداء يومي
حين ننتقل من النظرية إلى الواقع، نكتشف أن الأداء السياسي للنخبة العراقية يفتقر إلى المعايير الحديثة للحكم الرشيد: الكفاءة، الشفافية، المشاركة، والمساءلة. السياسات الاقتصادية تُدار بمنطق التوزيع الريعي لا التنمية الإنتاجية. والسياسة الاجتماعية محكومة بالمحسوبية لا بالعدالة. أما السياسة الخارجية فهي بين التبعية والارتباك، نتيجة غياب رؤية استراتيجية واضحة. في الوقت الذي تتجه فيه الدول الحديثة إلى تبنّي سياسات قائمة على التخطيط العلمي، والإدارة الرقمية، والحوكمة الرشيدة، ما تزال النخبة العراقية حبيسة منطق ما قبل الدولة الحديثة، حيث القرار السياسي يُتخذ في غرف مغلقة، والمصالح العامة تُختزل في تحالفات شخصية. النتيجة أن السياسة، بوصفها فن إدارة التعايش البشري، تحولت في العراق إلى أداة لإعادة إنتاج الانقسام الاجتماعي. فبدل أن تكون السياسة طريقاً إلى العدالة، أصبحت مرآةً للأزمات البنيوية في الثقافة السياسية العراقية: انعدام الثقة، ضعف المؤسسية، وتغليب الولاء على الكفاءة.

نحو إعادة تعريف السياسة في العراق
إذا كانت السياسة، في معناها الأصيل، هي البحث عن الخير العام وتحقيق العدالة ضمن نظام من السلطة الشرعية والحرية المسؤولة، فإنّ النخبة السياسية العراقية تحتاج اليوم إلى مراجعة جذرية لمفهومها للسياسة. المطلوب هو الانتقال من "السياسة كغنيمة" إلى "السياسة كخدمة"، ومن "الولاء للمذهب أو الحزب" إلى "الولاء للمواطنة والدولة". هذا التحول يتطلب إعادة بناء مؤسسات الدولة على أسس قانونية ومهنية، وتعزيز الثقافة المدنية التي تجعل من المواطن محور الفعل السياسي لا تابعاً للزعيم أو الطائفة. كما يستوجب إعادة تعريف العلاقة بين الدولة والمجتمع، بحيث تكون السلطة أداة لتحقيق المصلحة العامة لا هدفاً بحد ذاتها. إنّ إعادة إحياء مفهوم السياسة كفنٍّ للحكم لا كصراعٍ على الغنيمة، وكبحثٍ عن العدالة لا عن الامتياز، تمثل الخطوة الأولى نحو تأسيس شرعية جديدة في العراق، شرعية تقوم على الكفاءة والمساءلة والحرية المسؤولة.

تُظهر التجربة العراقية أنّ الأزمة السياسية ليست أزمة مؤسسات فحسب، بل أزمة في الفهم ذاته لمعنى السياسة. فحين تتحول السياسة إلى وسيلة للبقاء في السلطة، تفقد وظيفتها الأخلاقية والإنسانية. وحين يغيب الوعي بأنّ السياسة هي "تدبيرٌ للعيش المشترك بأقل قدر من الصراع وأكبر قدر من العدالة"، تصبح الدولة رهينة الصراع لا أداةً لتنظيمه. لذلك، فإنّ تجاوز مأزق النخبة السياسية العراقية يقتضي العودة إلى جوهر السياسة كما عرفها الفكر الإنساني منذ أفلاطون وحتى راولز: تحقيق الخير العام في ظل توازن بين السلطة والحرية والشرعية. من هنا فقط يمكن أن تتحول السياسة من عبءٍ على الدولة إلى طاقةٍ لبنائها، ومن ساحة صراعٍ على المصالح إلى ميدانٍ لصياغة مشروع وطني جامع يعيد للعراق مكانته كدولةٍ عاقلة في عالمٍ تزداد فيه الأزمات تعقيداً والعولمة تشظّياً.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.