: آخر تحديث

لا حياء في السلام: استعادة لبنان من قَبضة السلاح وبراثن العزلة

2
2
1

من الحدود البحرية إلى الحدود البرّية، ومن التلال الخمس إلى قصر بعبدا، يتكرّر المشهد ذاته: دولة ترفض أن تدير شؤونها كدولة مسؤولة، ورئاسة تخشى أن تنطق بما يجب نُطقه. أما لبنان فيقف اليوم عند مفترقٍ تاريخي، ليس بين الحرب والسلام فحسب، بل بين ديمومة الدولة واندثارها تحت ركام الوصاية وبين سراديب السلاح.

إنَّ النقاش حول الهدنة أو التسوية مع إسرائيل لا يمكن فَصلُه عن مسألة السيادة، إذ إن لبنان، الذي لم يحسم أمره تجاه سلاح حزب الله، لا يستطيع أن يكون طرفاً في أي مفاوضات أو تسوية. فكيف لدولة أن تفاوض ويُكَبلها قرار خارج عن ارادتها، وسلاح يتمرد عليها وتعجز عن السيطرة عليه، وصوت داخلي يتبع لإرادةٍ خارجية؟

من الخطأ اختزال فكرة السلام وتوصيفها بالخيانة أو الضعف. السلام ليس تنازلاً عن الكرامات، بل إنه استعادة لها. وإن السعي نحو تحقيق السلام لا يشوبه أيّ حياء. الحياء الحقيقي يكمن في الصمت عن الفوضى، وفي قبول احتكار قرار الحرب والسلم من قبل فصيلٍ واحدٍ يفرض منطقه على الدستور.

لقد أظهرت المقابلة التلفزيونية الأخيرة للوزير الأسبق مروان حمادة، سواء عن قصدٍ أو عن سهو، والتي بثت عبر قناة اسرائيلية ما لم يعد ممكنًا إنكاره: هناك شهية لبنانية كبيرة ورغبة، من مختلف الطوائف، في النقاش العلني بشأن السلام. الناس يريدون أن يتحاوروا ويتناقشوا في ما بينهم بلا خوف. واللبنانيون على اختلاف فئاتهم باتوا أكثر وعياً بأن بقاء الحال على ما هو عليه لم يعد يُحتَمَل. واللافت أن المزاج الشيعي نفسه بدأ يعبّر عن حاجته إلى حياةٍ طبيعية وآمنة، تخلو من مظاهر الدمار وتداعيات الوصاية. أما السلام فسيمنح كل اللبنانيين، والشيعة منهم أولاً، فرصة للعيش الكريم داخل دولة لا تعصف بها حرب ولا يتحكم بمصيرها أوصياء.

اليوم، وفي ذروة التحولات الإقليمية، لم يعد مقبولًا أن تستمرّ الدولة اللبنانية في إدارة شؤونها كما لو أنها قاصرة وتحتاج إلى وصاية سياسية. لقد اختلف المشهد الإقليمي: حزب الله خرج من الحرب الأخيرة وهو أضعف مما كان عليه، وفق تقييمات وتحليلات ميدانية وسياسية. هذا التراجع في قدرة الحزب يفتح نافذة واقعية أمام الدولة لإعادة بناء قرارها السيادي.
وبالمثل، لقد تغيرت معادلات الجوار: فأعاد سقوط نظام الأسد رسم خرائط النفوذ في سوريا، وفتح أمام لبنان فرصاً درامية لإعادة التواصل المؤسساتي وعقد مفاوضات إقليمية جديدة على أسس مختلفة. لا يجوز أن نبقى نتذرّع بما كان عليه أعواماً خلت؛ فالواقع الجديد يستوجب اتخاذ مبادرات وطنية مسؤولة لا تبرّر العجز.

إن زيارة رأس الكنيسة الكاثوليكية البابا ليو المرتقبة إلى لبنان ليست مجرد حدث يُجسد طقسًا من الطقوس الدينية؛ بل هي استثمار رمزي ودولي في السلام والوحدة الوطنية، وفرصة فريدة من نوعها لتجديد الالتزام بالمصلحة العامة وتثبيت رسالة لبنان كأرض للعيش المشترك لا للحروب والاقتتال. يأتي البابا محمّلاً برسالة أمل وبدعم دولي، والإخفاق في استثمار هذه الزيارة هو ترفٌ لا يتحمّله بلدٌ يئنّ تحت وطأة العزلة.

تمتد الفرصة أيضاً لتشمل العرض الأخير بطلب إسرائيل التفاوض المباشر: هذا الطلب ليس فخاً بطبيعته بل فرصة ذهبية يجب على لبنان أن يغتنمها ليَحضُر بنفسه ويدافع عن مصلحته الوطنية. إن حضور الدولة بنفسها، بما تُمَثل من حوكمة ومؤسسات، أفضل من تفويض الملف لوسطاء أو إيداعه في جعبة وحدات عسكرية غير ملحقة بقرار مدني، كما تذكرنا تجارب سابقة (اتفاقات أُبرمت عبر وساطات أو زجّت فيها قيادات عسكرية) بأن التفويض يمكن أن يُشوّه نتائج التفاوض ويضع مصالح البلاد في مهبّ اتفاقات لا تحمي السيادة. لبنان مدعوّ اليوم ليجلس على الطاولة بوجه مكشوف ويدافع عن حدوده ومصالحه، لا أن يُعطي الحقائق أو يُسلمها لغيره.

التذرّع بأن ملف السلام "ملف شيعي" أو أنه لا يجوز مقاربته إلا بموافقة "الثنائي" هو تفكيك لمبدأ الدولة. لبنان ليس طائفة ولا وكالة سياسية، ومن واجب رئيس الجمهورية والحكومة مجتمعة، بصفتهما الضامنين للدستور، أن يواجها هذا التحدّي بشفافية وشجاعة: أن يُعلنا أن ملفّ السلام هو شأن وطني لا يُلزّم ولا يُفوّض، بل يُدار ضمن المؤسسات الشرعية وباسم الشعب كله.

المطلوب اتخاذ خطوات عملية وواضحة: إعلان نية وطنية للتوجه نحو هدنة دائمة ووضع شروط تفاوضية تنسجم مع مصالح لبنان؛ فتح حوارٍ مؤسساتيّ يضم جميع القوى الوطنية (لا استئثار لطرف واحد)؛ والتأسيس لحراك دبلوماسي يرافق كل إجراء داخلي لإقناع المجتمع الدولي بالانخراط في إعادة بناء قدرات الدولة، الاقتصادية والأمنية. السبيل ليس في تحقيق المعجزات؛ يكفي أن يُعلن المسار ويبدأ التنفيذ.

أخيراً، لا حياء في الكلام عن السلام، ولا كرامة في الصمت عن الوصاية. من يريد حماية لبنان فليحمِه بالسيادة لا بالشعارات. من يخشى فقدان النفوذ فليتذكر أن العزلة أقسى من الحساب، وأن الحرب الداخلية المستترة تفتك بلبنان أكثر مما تُدَمر أي مواجهة على الحدود. السلام ليس ترفاً، بل شرط وجودي، وحق لكل لبناني أن ينعم بعيش كريم يليق بالإنسان لا كرهينة.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.