عدتُ من باريس مؤخراً، والمدينة تضجّ بنقاشات لا تنتهي حول ما أصبح الفرنسيون يسمّونه «أزمة الذات».
في الشوارع والمقاهي والصحف، لا حديث يعلو على وقع الحكم بالسجن النافذ على نيكولا ساركوزي، الرئيس الأسبق للجمهورية، ومبيته في سجن «لا سانتيه» الباريسي. صورة لم تكن ممكنة قبل سنوات قليلة، لكنها اليوم تختصر تحوّلات عميقة تضرب فرنسا في عمقها السياسي والنفسي معاً.
ومع أن الحادثة بحدّ ذاتها وبكل حيثياتها تتعلق بالقانون والعدالة، فإنها بدت رمزاً للانحدار في الوجدان العام الفرنسي؛ إذ لم يعد الحكم على رئيس سابق مجرّد قضية قضائية، بل أصبح مرآة لمأزق أكبر: بلدٌ يفقد رموزه، ونخبةٌ سياسية غارقة في الخلافات، ومجتمعٌ متوتر يطرح على نفسه أسئلة الوجود والهوية، والنفوذ المتصل بالسلطة السياسية.
في المقابل، كانت النقاشات في الطبقة السياسية والإعلامية تدور حول موضوع آخر لا يقل حساسية: التراجع المتسارع للدور الفرنسي في أفريقيا، وفقدان النفوذ في مناطق كانت تُعدّ تقليدياً «العمق الاستراتيجي» لباريس. من نيامي إلى واغادوغو، ومن باماكو إلى نواكشوط، تتراجع فرنسا أمام صعود قوى جديدة - بعضها أفريقي الهوى، وبعضها روسي أو صيني الحضور - وسط صمت ثقيل من الإليزيه، وعجز مؤسساتي عن إعادة تعريف العلاقة مع القارة التي صنعت مجد فرنسا الحديث.
لم تتوقف مظاهر الانكماش عند أفريقيا فحسب، بل امتدت إلى أقاليم ما وراء البحار مثل كاليدونيا الجديدة، حيث تتجدد الدعوات إلى الانفصال، ما يُعيد إلى الأذهان صورة الإمبراطورية التي كانت يوماً ما «تتسع على مدار الشمس»، وغدت اليوم مهددة بفقدان أطرافها البعيدة وألقها الرمزي في آن واحد.
في لحظة حرجة كهذه، يعود المرء إلى طرح تساؤل ضروري: ما الذي دها الفرنسيين الذين كانوا قبل نصف قرن يوزّعون نفوذهم بين أفريقيا وآسيا وأوروبا ليصلوا إلى هذا الوضع؟ كيف تراجعت «الأمة المتألقة» إلى هذا الحد من القلق الوجودي؟
الإجابات كثيرة، لكنها جميعاً تلتقي عند نقطة واحدة: فقدان الإيمان بفكرة فرنسا نفسها. فالمشروع الفرنسي الذي جمع بين التنوير والعظمة، بين اللغة والثقافة والنفوذ، أصبح يتيه في صراعات داخلية حول الهوية والدين والهجرة والذاكرة الاستعمارية.
ولعل أجمل ما في فرنسا هو قدرتها على الاعتراف بأوجاعها عبر الثقافة قبل السياسة. فبينما كانت النخب تتجادل حول تراجع النفوذ، كانت المكتبات الفرنسية تحتفي بإعادة إصدار كتاب «أرض الرجال» (Terre des hommes) لأنطوان دو سانت إكزوبيري، الكاتب والطيار الذي اختصر في أدبه جوهر الروح الفرنسية: المغامرة، الحلم، والكرامة الإنسانية، وذلك عبر قوة وجمال اللغة.
الطبعة الجديدة من الكتاب، التي تصدّرت واجهات المكتبات الباريسية، لم تأتِ صدفة، بل أتت كأنها دعوة غير معلنة للعودة إلى الذات، إلى ذلك الزمن الذي كانت فيه فرنسا تصدّر للإنسانية أفكاراً عن الحرية والواجب والشجاعة، بدل أن تكتفي بالحديث عن أزماتها وهواجسها.
يكتب سانت إكزوبيري في «أرض الرجال»: «إن العظمة الحقيقية ليست في القوة، بل في القدرة على إعطاء معنى للحياة».
هذه العبارة التي كُتبت في ثلاثينات القرن الماضي، تبدو اليوم وكأنها رسالة إلى فرنسا المعاصرة، فرنسا التي تبحث عن «معنى» جديد في عالم فقدت فيه بوصلة القيادة. فهذا الكاتب الطيار الذي حلق في سماء الصحراء الأفريقية، وكتب عن الإنسان في مواجهة العزلة والعدم، كان يرى في أفريقيا مرآة للروح، لا مجرد فضاء للنفوذ السياسي أو الاقتصادي.
وربما هنا يكمن جوهر المفارقة: وهي أن فرنسا التي كانت «تُحلّق» بالمعنى الرمزي في فضاء الإنسانية، أصبحت اليوم تُساق إلى معارك صغيرة على الأرض، موزعة بين صراعات حزبية ضيقة بلا أفق، وخطابات متشنجة عن الهجرة والهوية والإسلام، تستهلك طاقتها وتشوّه صورتها كأمة كانت يوماً ما حاملة لمشعل التنوير.
بين سجن ساركوزي وصوت سانت دو إكزوبيري، يمكن للمتأمل أن يرى التناقض الصارخ بين واقعٍ مأزوم وماضٍ مثالي حسبما اختزنته الذاكرة؛ فالأول يكشف أزمة الأخلاق في السياسة، والثاني يذكّر بأن السياسة بلا أخلاق ليست سوى عبء على الأمم.
ولعل أحد مظاهر عظمة الأدب الفرنسي أنه يحتفظ دائماً بمفتاحٍ رمزي للنجاة، خصوصاً حين يعجز السياسيون عن ابتكار الفعل. فبين «الأمير الصغير» الذي علّم العالم براءة الحكمة، و«أرض الرجال» التي علّمت الطيارين معنى الإنسانية، هناك عبرة تذكّر الفرنسيين بأن قوتهم الحقيقية لم تكن في السلاح ولا في المستعمرات، بل في الفكرة التي حملوها للعالم، وهي أن الإنسان يستحق الكرامة، حتى وهو يسقط أو ينهزم، أو يكون ضحية للمظالم التاريخية.