يقولون إنَّ الانتخابات هي عرس الديمقراطية. لكن في العراق، يبدو أن العرس مستمر منذ قرن ولم نرَ العروس بعد! عرس بلا عروس، بلا موسيقى، بلا هلالين، وحتى "الكعكة" اختفت في الطريق. كل ما عندنا صناديق خشبية، بلاستيكية، إلكترونية، محمية، مراقبة، مفروزة، لكن النتيجة واحدة: لا شيء يتغير سوى رائحة الحبر البنفسجي التي تظل عالقة في أصابع الناخب كذكرى ساذجة. والضيوف هم السياسيون، والضحايا هم المواطنون.
منذ العهد الملكي، كان العراقيون يصطفون لمنح أصواتهم، لا يهم إن كانت الانتخابات حقيقية أم مفبركة، فالنتائج جاهزة قبل فرز الأصوات. كان السياسيون يعرفون أن الديمقراطية مثل الكباب: تزينها أمام الناس، لكن تأكلها وحدك في الداخل.
ثم جاءت الجمهوريات، وارتفع مستوى "الكوميديا السوداء": صارت الانتخابات استفتاءات بنسبة 99.9 بالمئة. حتى الموتى كانوا يخرجون من قبورهم للإدلاء بأصواتهم، ممتنين لرئيسهم "القائد الأوحد". كانت صناديق الاقتراع أشبه بآبار نفط: يخرج منها فقط ما يملكه الحاكم.
بعد 2003، قيل لنا إننا سندخل عصر الديمقراطية الحقيقية. هتف العراقيون: "هذه فرصتنا!"، وهرعوا إلى الصناديق كطفل يهرع إلى لعبة جديدة. لكن اللعبة كانت معطوبة: كلما ضغطت زر "التغيير"، تظهر نفس الوجوه القديمة التي لا تتعب ولا تتقاعد، ولا تتبدل إلا بزيادة وزن أو لحية.
تاريخ الانتخابات العراقية هو إعادة تدوير: نفس الوجوه، نفس الوعود، وكأننا في مسرحية عبثية تتكرر بلا نهاية. والفرق الوحيد أن الحبر البنفسجي صار مثل "الوشم"، شاهد على حماقتنا المتكررة.
تحولت الديمقراطية من منظومة حكم رشيدة إلى موسم انتخابي يشبه "الجمعة البيضاء"، حيث تُوزع الأكياس: كيس طحين، كيلو عدس، ووعود لا تقل نفخة عن مشروع توظيف أو بناء جسر لا يظهر إلا في الشعارات. الانتخابات لا تُخاض على برامج أو قناعات، بل على قوائم الطعام والقرابة والعشيرة، و"البطاقة التموينية المؤقتة" التي تُمنح قبل يوم الاقتراع!
اختزل البعض الديمقراطية في "صندوق اقتراع"، كأن التصويت وحده يُنجز الدولة، بينما هي منظومة أوسع، أساسها الشفافية، المحاسبة، والفصل بين السلطات. أما عندنا، فالصندوق أداة لإعادة تدوير نفس الوجوه، بضمانة أحزاب تعتبر السلطة حقًا شرعيًا لا يُنازع، وميزانية الدولة فرصة لا تُفوّت لـ"التدوير الذاتي" للثروات.
الانتخابات هنا ليست وسيلة لتغيير حقيقي، بل مهرجان توزيع هدايا مؤقتة تُطعمنا على نار الطائفية والمحسوبية. في نهاية المطاف، تنطفئ النار ويبقى الكباب محروقًا، والديمقراطية في طبق خاوي ينتظر من يعيد تسخينه... في الدورة القادمة.
الأحزاب تعامل الانتخابات كاستفتاء على بقائها، لا على أدائها، وتعتبر الفوز تفويضًا مفتوحًا للنهب والتكليف، لا للتكليف والمحاسبة. وإن خسر أحدهم، فهناك طرق أخرى للتعويض: تحالفات اللحظة الأخيرة، والدعوات القضائية المفاجئة.
أما الشعارات الانتخابية، فهي مادة لمتحف الكوميديا:"نحو عراق جديد" (منذ 20 سنة وما زال الجديد في الطريق)."خدمة المواطن أولًا" (لكن المواطن دائمًا في آخر القائمة)."معًا ضد الفساد" (والفساد يزداد قوة كل دورة حتى صار له حزب، وبرلمان، وربما جامعة قريبًا).
الديمقراطية الحقيقية لا تُقاس بعدد صناديق الاقتراع، بل بعدد المرات التي حُوسب فيها مسؤول، وعدد المرات التي غيّر فيها المواطن رأيه دون أن يُتهم بالخيانة أو يُرمى بـ “أجندات خارجية". فهل نحن فعلاً في ديمقراطية... أم في حفلة توزيع إعانات انتخابية باسم الوطن؟
باختصار، علّمنا التاريخ أن الانتخابات في العراق ليست وسيلة للتغيير، بل وسيلة لإقناع الناس بأن التغيير مستحيل. تتحول صناديق الاقتراع إلى صناديق وهم، ويتحول صوت الناخب إلى ورقة في أرشيف النسيان. ديمقراطيتنا أشبه بالكهرباء الوطنية: موجودة على الورق فقط! بل هي أشبه ببيتزا مُغرية في إعلان لامع:
شكلها جميل، رائحتها واعدة، والإعلان يُوهمك أنك ستشبع…لكن حين تتذوّقها، تكتشف أن العجينة فارغة، الجبن مستورد، والطماطم مفقودة بسبب الأزمة! وهي تُدار بمنطق: اختر من شئت، فالفائز معروف مسبقًا!