تشير الوقائع الحالية إلى أنَّ غزة اليوم على حافة انقسام جغرافي وسياسي هو الأعمق في تاريخها الحديث، حيث لم تعد القضية مسألة خطوط تهدئة أو خرائط جديدة لوقف النار، بل تحوّلت إلى إعادة رسم كاملة لبنية السيطرة والنفوذ داخل القطاع، بأسلوب يبدّل جوهر السيطرة الجغرافية على غزة ويعيد تعريف علاقة القوة بين الداخل والخارج.
ما يجري منذ توقيع اتفاق وقف إطلاق النار الأخير في تشرين الأول (أكتوبر) 2025 ليس مجرد فترة هدوء، بل مرحلة تجريب لصيغة سياسية جديدة لقطاع غزة، تقوم على توزيع النفوذ وترسيخ واقع أشبه بالتقسيم الفعلي بين منطقتين؛ إحداهما تخضع لإشراف أمني إسرائيلي مباشر، والأخرى تُركت لإدارة داخلية متوترة تحكمها حركة حماس الإرهابية بقبضة من حديد.
لقد قبلت حماس بالاتفاق الأخير الذي رعته واشنطن وبعض الدول الإقليمية على مضض، بل إن دخولها في ترتيبات وقف النار وتهدئة طويلة الأمد جاء – في رأيي – نتيجة خوف مباشر من عقوبات أميركية شاملة تهدد بقطع الموارد الحيوية التي تعتمد عليها في إدارة القطاع. وبلا شك أن هذه المشاركة الاضطرارية في اتفاق السلام لم تكن خيارًا حرًا للحركة الإرهابية التي ترى في الحرب والاشتباك الدائم وسيلة وجودها وبقائها في السلطة، لأن استمرار الموت والتوتر هو ما يبرر دورها السياسي والعسكري.
في الحقيقة، ما يعزز هذه القراءة هو ما نراه من ممارسات ميدانية قاسية مرعبة لكنها طبيعية لسلوك حماس الإرهابية داخل غزة نفسها، حيث وثقت تقارير إعلامية دولية قيام عناصر من حماس بإعدامات علنية لعشرات الأشخاص في الشوارع بذريعة التعاون مع دولة إسرائيل. ومن وجهة نظري، فإن الرسالة التي تبثها سلوكيات حماس اليوم إلى سكان القطاع يمكن تلخيصها بجملة قاسية: أنتم وقود سلطتنا، ودماؤكم جسر نرمي به خوفنا ونبني عليه بقاءنا.
الأكثر إثارة هو صمت العواصم الإقليمية الداعمة للحركة إزاء هذه الجرائم، إذ لم يصدر عنها أي موقف علني يدين أو حتى يعلّق على عمليات الإعدام الجماعي، وكأن هناك موافقة ضمنية على ما يجري. وهذا الصمت، في رأيي، لم يكن سهوًا بل موقفًا مدروسًا، حيث تُفضل تلك الدول الإقليمية الحفاظ على نفوذها عبر بقاء حماس كقوة أمر واقع دون الدخول في مواجهة مع إدارة ترامب التي ألمح أكثر من مرة إلى فرض عقوبات مباشرة على كل جهة تموّل أنشطة الحركة.
ولعل هذا ما جعل قادة تلك الدول التي تدعم حماس يجدون توازنًا بين حاجة الإبقاء عليها كأداة إقليمية وبين الخوف من الغضب الأميركي الذي أثبت في السابق أنه لا يتردد في استهداف كيانات مالية وشخصيات سياسية مرتبطة بتمويل الفصائل المسلحة. حماس هي الورقة الفلسطينية في هذه المشاريع، والتفريط فيها يعني خسارة استراتيجية لا تُعوض. لذلك، ستدعم هذه العواصم أي صيغة تُبقي حماس في المشهد، وإن كان في صيغة "إمارة غزة الشمالية" الصغيرة.
السيناريو المرجح هو التالي: خلال الأشهر الستة إلى الاثني عشر القادمة، سيفشل تطبيق نزع السلاح الكامل من حركة حماس الإرهابية لأسباب لوجستية. وستبدي حماس مرونة في جنوب غزة لكنها ستتشبث بالشمال كخط أحمر. بلا شك أن حماس تريد أن تقول للجميع: شمال غزة لنا، وسندافع عنه بالدم. في حين سيتحول محور نتساريم تدريجيًا إلى خط أزرق كما في لبنان، وبعد عامين أو ثلاثة، سيُعلن العالم أن نموذجًا إداريًا مزدوجًا في غزة هو الحل الواقعي والبراغماتي.
وبلا شك، فإن عملية الإعمار لن تبدأ فعليًا طالما استمر هذا الوضع المزدوج، لأن المانحين الدوليين لن يضخوا الأموال في منطقة تحت سيطرة فصيل مسلح غير معترف به دوليًا.
في الحقيقة يمكن القول إن هذا الواقع لم يُفرض عليهم من الخارج فقط، بل ساهمت فيه إرادتهم التي بيعت للعواصم الإقليمية ونخبهم المنقسمة التي تعيش تحت وهم القضية وتحرير فلسطين والقدس بينما تخدم فعليًا مصالح قوى أكبر. فالفلسطيني اليوم، بالرغم من شعاراته، لا يملك حق تقرير المصير بقدر ما ينفّذ إرادات غيره. يعيش فكرة المقاومة كإيمان غامض بالمجد، لكنه في العمق أداة مطيعة في لعبة إقليمية لا حدود فيها للألم ولا مكان فيها للإنسان.
وما يزيد المشهد ظلمةً أن القوى الإقليمية التي تزعم دعم الفلسطينيين لا تريد حقًا إنهاء مأساتهم، لأنها تتغذّى على استمرارها، فكل قذيفة جديدة وكل جثة تُرفع من الركام تمنحها سببًا جديدًا لتجدد خطابها وتبرّر حضورها. والأخطر من ذلك أن هذا الواقع الدامي بات مرغوبًا من الجميع، لا لأن أحدًا يراه حلًا دائمًا، بل لأنه يخدم مصالح دائمة.
أعتقد أن القطاع يسير نحو مرحلة جديدة من تثبيت واقع التقسيم غير المعلن، لأن الأطراف الفاعلة جميعها تجد فيه حلًا مؤقتًا يمنحها الهدوء بدون النصر. فحماس تحقق بقاءها كقوة حاكمة ولو على نصف غزة، ودولة إسرائيل تضمن أمنها الاستراتيجي دون احتلال شامل مكلف، والدول الإقليمية الراعية تجد في ذلك استمرار نفوذها في الملف الفلسطيني. وهكذا، ومن دون إعلان رسمي، قد تدخل غزة مرحلة "القطاعين"، حيث تقوم سياسة القبول بالأمر الواقع مقام القرارات والاتفاقيات، ويصبح التقسيم المؤقت – في رأيي – النتيجة الطبيعية لصراع لم يجد بعد طريقه إلى الحل.


