أما آن للأزهر أو لغيره (وإن كان التعويل عليه أكثر) أن يصدر فتوى عدم إلزام الفتوى، ومن ثم حرمانها في أزمان الهرج والفتن؟
ففي أزمان الاستقرار والأمان قد يُقبل في وجه من الوجوه الأخذ بالفتوى، وأما والبلاد في حالات احتراب ونزاعات فالأخلاق تحتم حرمان الفتوى، ولا سيما أنه لم يعد هناك من شك أو ريبة أنَّ الجرأة على الفتوى أمر تستسهله كثير من النفوس، وأبجديات التفسير والتأويل تبين أن أي قضية تجد مواطنَ شاهدها في النص الديني وتراثه الفقهي والعقدي.
ولنا أن نرى كيف بات يمكن لأيّ كان أن يجعل ما يكرهه خارجيًا منحرفًا، ثم في اليوم الثاني يجعله في زمرة المتقين، وفي حالتي فتواه أنت آثم إن لم تأخذ بها. وكلنا يعلم في قرارة نفسه لو أنَّ الأمر اليوم لتنظيم الدولة، فلا أسهل من جلب ممحاة وتغييرها بغيرها من فرقة لم تعد موجودة، فيلحقون بها ما تشتهي نفوسهم وأهواؤهم من التبديع والتضليل، ويضفون على صاحبة الأمر ما تشتهيه النفوس من صفات المجد والعزة والنصرة والدين والاستقامة. ولنا أن نعود اليوم إلى آراء المشايخ ورجال الدين بفرقهم وجماعاتهم، لنجد رأيين متناقضين (تكفير مرة وأخرى تزكية) من دون تغير في نهج الذين وقعت عليهم الفتوى، التغير حصل في جوانبه السياسية والمكانة من السلطة والحكم. وليس بمحرم عليهم كحال غيرهم أن يبدوا مواقفهم وآراءهم السياسية أو الفكرية من الآخرين، لكن المستنكر أو المخيف هو إلباسها لباس الدين والعقيدة، فرأيهم دومًا مشفوع بالدين وتحليله وتحريمه، وكأن الله طوع أمرهم.
وهذا إذا نُظر إليه من منظوره النقدي الصحيح، فهو الشرك لا غيره، وهو الكفر لا سواه – إذا أخذنا الحكم من منظورهم الفقهي – لأنهم يتألهون على الله؛ فينطقونه بالنقيضين كما يحلو لهم، وكأنهم هم الله الذي يغفر لمن يشاء ويضل من يشاء. وما يحدث في سوريا اليوم شاهد على ذلك، وفي اليوتيوب وغيره من مواقع التواصل ما يكفي للتدليل عليه.
هي فتوى لا تحتاج إلى أكثر من نصّ مؤسس، وحكم يترتب عليه، واسم نستعيره من خزائن رغباتنا قابل للتبديل كما يتلاعب أبو نواس بكلمات أشعاره في حضرة الرشيد؛ فلا مشاحة في الأسماء حين يسلم الوزن ويستقيم المعنى.
بالفتوى تصير على المحجة البيضاء، وبها تصير من الضالين... وهذه خطرها القريب في الدماء في زمن أمسى هدرها من يسير الأفعال، والأخطر في جانبها الأخلاقي؛ إذ صارت تمرر في لا وعي الناس وفي وجدانهم حتى تصير أمرًا غير مستغرب وكأنها فتوى حياتية. وهي من جهة تجعل العقل يقبل التناقض حالةً اعتياديةً، ثم – وهذا الأخطر – تجعل الكذب دينًا وشرعة، بعد أن تتحول شرعية الكذب والنفاق من دائرة الكهنوت إلى دائرة العامة.
وقد أوصى حذيفة بن اليمان فقال: "إن الضلالة حق الضلالة أن تنكر ما كنت تعرف وأن تعرف ما كنت تنكر، وإياك والتلون في دين الله فإن دين الله واحد".
والتاريخ والشرائع والأدب كلها تقول إن انهيار القيم الأخلاقية لأمة مؤذن بزوالها.
ولقد حاول الخليفة الرابع علي أن ينبه إلى أن النص الجمالي لا يصلح للتشريع بذاته، لكن التراث الفقهي غلب في نهاية الأمر. واليوم تثبت علوم النقد والتأويل والمنهجية ونظريات الجمال والتلقي، كلها مجتمعة، تثبت بما لا مجال لدحضه، أن النص اللغوي متى اعتمد على آليات التأثير البلاغي صار حمّالًا للنقيضين. والقاضي عبد الجبار يقول إن الحسن والقبح إذا تخالطا صارت الغلبة للقبح وصفًا (ضمن مناط التأويل).
وليس مقبولًا بعدُ التذرعُ بالزمن، وأنَّ السبب يعود إلى ضعف الإيمان وتغير الأحوال وكثرة المتجرئين على الفتيا في أيامنا هذه؛ فمن يراجع تاريخ الفتيا يجد أنها ظاهرة قديمة، ولم يخلُ زمان بعد الجيل الأول للصحابة، إلا والشكوى من اضطراب الفتوى وكثرة المسارعين إليها حالة مستشرية. وما ذاك من تغيّر أزمان وأحوال أو تبدل في النفوس وما شاكل تلك الذرائع والرؤى، وإنما هي نتيجة حتمية متأصلة في طبيعة النص الجمالي حمّال الأوجه، وما يجري عليه من مناهج التفسير والتأويل المعهودة. وقد قال القاضي الفقيه سحنون بن سعيد: "إن فتنة شهوة الجواب بالصواب أشد من فتنة شهوة المال". هي جبلة وفطرة، فكيف بها حين تختلط بالمصالح؟!
الدين الحي لا يستغني عن مكتسبات العلم وتطوراته، وقد باتت الحال اليوم، بفضل علوم النص، أنه من المعلوم من المعرفة بالضرورة أن شروط التأويل السابقة لا تصلح لأكثر من كونها مطية القناعات الشخصية والأهواء، وأن ثمة اتجاهات جديدة جدير بنا أن نلتقطها.
هذه مقاصد الدين وغايته، وأما الكهنوت ورجالاته فليس من مصلحتهم أن نغيّر أو نحول، ولذلك ينفّرون ويحذّرون منها... فلنتركهم في دائرتهم، ولهم أخلاقهم، ولنحرر الدين منهم، ليتحرر الوعي من أدرانه، وتعود للأخلاق قيمتها الجمالية المعهودة.