من يقرأ نعوم تشومسكي اليوم يظن أننا أمام حكيم منبوذ يصرخ في صحراء الخراب، يصف العالم لا كما ينبغي أن يكون، بل كما صار بالفعل: حروب لا تنتهي إلا لتبدأ، كوارث بيئية تُدار كأعمال جانبية، مستويات غير مسبوقة من انعدام المساواة الاجتماعية، وأنظمة استبدادية أشبه بالتماثيل الفرعونية؛ لا تتزحزح ولا تتشقق مهما انهار من حولها. هذه ليست مقدمات فيلم بائس من إنتاج هوليوود، بل "عواقب الرأسمالية" كما يسميها تشومسكي ببرودة جراح يعرف أن الجسد ميؤوس منه لكنه مع ذلك يفتح الجرح ليُري الجميع القيح.
الرأسمالية في خطاب تشومسكي ليست مجرد نظام اقتصادي، بل أسلوب حياة عالمي، أيديولوجيا ببدلات رسمية وعطور فرنسية، تحوّلت إلى حفلة نهاية العالم حيث العزف على القيثارة أثناء احتراق روما صار وظيفة رسمية للحكومات. نحن لم نعد فقط في اقتصاد السوق، بل في سوق للنجاة نفسها، سوق تُباع فيه حتى آمالنا على أقساط.
يقول تشومسكي إن أمامنا وقتاً قصيراً للتحرك، خصوصاً في ملف المناخ. لكن دعونا نضحك قليلاً: الوقت القصير عند الرأسمالية يُترجم إلى مزيد من المؤتمرات، مزيد من التقارير المصقولة بالفوتوشوب البيئي، ومزيد من الخطابات التي تُباع كبطاقات دخول إلى وهم "التحول الأخضر". اللعبة لم تنته بعد؟ ربما. لكن الجمهور ملّ هذه المباراة، فيما الكبار يوزعون الأرباح ويضاعفون الانبعاثات.
جون ديوي وصف النظام الحالي بـ"الإقطاع الصناعي". وما أعمق هذا التعبير. إقطاعٌ بإنترنت فائق السرعة، ومصانع لا تصنع إلا المزيد من الاغتراب. السياسة اليوم ليست سوى ظل الشركات، والظل أطول من صاحبه بكثير. إزالة هذا الظل ليست مهمة بسيطة، بل جراحة كونية، لكنها تظل ممكنة إن لم نُسلم الأمر للقدر ونكتفِ بالتصفيق.
خذوا مثالاً مذهلاً ذكره تشومسكي: إدارة ترامب أعدّت تقريراً بيئياً من خمسمائة صفحة لتستنتج أنه لا داعي لتقليل الانبعاثات لأن الكارثة قادمة لا محالة! المنطق هنا يشبه من يقرر الاستمرار في التدخين لأن الرئة احترقت أصلاً. هذا ليس تقريراً علمياً، هذا إعلان رسمي لانتحار جماعي على طريقة الإمبراطور نيرون، لكن هذه المرة ليست روما وحدها التي تحترق، بل الكوكب بأسره.
والأدهى أن هذا التسيير الكارثي يُدار بابتسامة بيروقراطية عقلانية. الحكومة الأقوى في العالم تقول لنا حرفياً: "استمتعوا قبل النهاية". هذه ليست سياسة عامة، هذا مانيفستو نهاية العالم مكتوب بحبر رسمي.
ومع ذلك، ليس كل البشر مجرمين ذهانيين كما تتخيلهم هذه الأنظمة. في الدنمارك، نصف الطاقة تقريباً سيكون متجدداً بحلول 2030، وفي 2050 سينتهي استخدام الوقود الأحفوري. الصين، بالرغم من فقرها النسبي، تنتج طاقة شمسية أكثر من بقية العالم مجتمعاً. إنهم، على الأقل، يحاولون إنقاذ المركب بينما قادة النظام العالمي يحفرون فيه ثقوباً إضافية ليزيد من سرعة غرقه.
تشومسكي لا يكتفي بالتحليل، بل يعيد طرح السؤال الأخلاقي الذي نخاف جميعاً أن نسمعه: ماذا فعلت أنت؟ ماذا لم تفعل؟ وماذا يمكنك أن تفعل الآن؟ في لحظة تاريخية يُدار فيها العالم بأسلوب شركات سجائر تبيع السرطان في عبوات ملوّنة، علينا أن نختار بين أن نكون موظفي معسكرات الإبادة البيئية أو أن نتحول إلى مقاومين لهذا الانتحار الجماعي.
القصة التي تتكشف أمامنا، كما يشير تشومسكي، أكثر رعباً من ما يقع في فلسطين، لأنها عالمية، بطيئة، وتُدار بابتسامات مديري مجالس الإدارة. والأجيال القادمة، إن وجدت، لن تسأل: "لماذا حدث هذا؟" بل ستسأل: "ماذا كنتم تفعلون وأنتم تشاهدون كل هذا؟".