نشأتُ في بيتٍ تُظلِّله المحبّة، لا الخوف. شجّعني أبي وأمي على الدراسة، وكان أبي يحلم بأن أرتدي معطف الطبيب الأبيض وأسافر إلى بلادٍ بعيدة لأدرس الطبّ، أما أنا، فكنت أكره مهنة الطب منذ طفولتي، وأهوى الفنّ والكتابة، أجدُ في الكلمة ما لا أجده في مشرطٍ أو سمّاعة. أطعتُهما حين اختارا لي دراسة الحقوق، لا حبّاً بها، بل امتثالاً لرجائهما، بينما كان قلبي ينجذب إلى علم الاجتماع، ذاك العلم الذي يشرّح الروح والمجتمع لا الجسد.
لكنّ الطاعة لم تكن خوفاً، فما كان في بيتنا خوف. كنتُ أحبهما وأحترمهما، وأشعر بحبّهما واحترامهما لشطحاتي الطفولية، لأسئلتي الغريبة، ولنزقي الصغير. وكنتُ كلما زرتُ بيوت الأقارب في مدينتي الرّقة، أرى مفارقةً تُثير دهشتي: بيوت عامرة بالأثاث الباذخ، وغرفة يسمّونها "الصالون"، تُفتح للزوّار فقط، مقاعدها حريرية لامعة، وحوافها مُذهّبة، لكنّها بلا كتاب واحد. كأنّ الجمال هناك مظهر لا جوهر، والثراء غاية لا وسيلة للمعرفة. لم أرَ في تلك البيوت رفّاً للكتب، ولا ظلال فكرٍ أو فضول، أما بيوت القرية التي انحدر منها أبي، فكانت فقيرة، عامرة بالتراب والتعب، أهلها لا يعرفون القراءة ولا الكتابة، لكنّ في وجوههم صدقاً يُشبه الحكمة الفطرية.
أبي وأمي، على قلّة ما حصلا عليه من تعليم، كانا مثقّفين بمعنى آخر، عميق وبسيط في آن. فتحتُ عيني على مكتبة صغيرة في بيتنا؛ رفوف خشبية متواضعة تحمل كتباً بالعربية، ثم أضفتُ إليها لاحقاً كتباً إضافية بعد أن توسّعت دراساتي في الأدب والفلسفة والتاريخ. كانت تلك المكتبة الصغيرة نافذتي إلى العالم، ومن خلالها التقيتُ بأرواحٍ كثيرة: الجاحظ والمعرّي والخنساء وبشّار والمتنبي، ثمّ ابن سينا وابن رشد والمنفلوطي والعقّاد وطه حسين وجلال أمين ومحمد عبد الحليم عبد الله والعجيلي ومحفوظ وغيرهم.
كنت أقرأ بشغفٍ كمن يكتشف ذاته في مرايا الآخرين. وكان أبي يقول لي دائماً:
"اقرأ أكثر مما تسمع، ولا تنقل من الكتب، اقرأ ثم انسَ ما قرأت، فالمهمّ لا يضيع رغم النسيان".
تلك الجملة ظلّت تصحبني، لأنها تختصر فلسفة الكتابة عنده: أن تكون الكتابة تجربة شخصية، لا تكراراً لأصواتٍ سابقة. كان يقول:
"اكتب مشاعرك وأفكارك، وإن بدت لك تافهة، فكل تجربة تستحق الكتابة، فربّ مجنونٍ حرٍّ يدرك ما لا يدركه العاقل المسجون".
وكان أبي يحبّ السخرية الممزوجة بالحكمة، فضلاً عن الصراحة والصدق، يضحك وهو يردّد أشعار بشّار وابن نواس وعبد الحميد الديب، وكان قارئاً نهماً لأدب عبد السلام العجيلي، ناهيك بأخبار العشائر. يقول:
"الفكاهة لا تولد إلا من رحم المعرفة، وهي بدورها تلد مزيداً منها".
لم يكن يُحبّ الخطب الرنّانة التي يتسابق فيها رجال السياسة والأحزاب، كان يسخر قائلاً:
"أسمع ضجيجاً ولا أرى طحناً".
ويرى أن أكثر الخطب السياسية تُخفي وراءها نزعة تسلّطٍ واستعلاء. كان يكره السلطة، ويأنف الزحام، يُفضّل القراءة الصامتة على الكلام الصاخب، ويقول:
"الكتابة تكره علوّ الصوت، فالتفكير ابن الصمت".
أبي كان هادئاً، متواضعاً، لا يرتفع صوته إلا مرة واحدة في حياتي، حين اتهمته أمي بخيانةٍ حلمت بها. قالت له غاضبةً بعد أن استيقظت من نومها: "رأيتك مع امرأةٍ أخرى".
فأجابها ضاحكاً بمرارة: "أنا مسؤول عن أحلامك يا سلمى؟".
قالت: "لا دخان من غير نار، ولا ينفصل الحلم عن الحقيقة".
تلك الحادثة العابرة كانت أول درسٍ لي في هشاشة العلاقة بين الواقع والخيال، بين ما نراه وما نتوهّمه.
أما أمي، فكانت تلميذةً في ربيع عمرها حين اختُطِفت أحلامها. أخرجها أبوها الحاج عبدالله المعمار من المدرسة بالقوة، ليزوّجها من أبي. كانت تحبّ الشعر، وتحلم بأن تكون كاتبة أو عالمة، لكن الزواج أطفأ جذوة الطموح، أو بالأحرى، أجبرها على دفنها تحت رماد الواجب، فاكتفت بممارسة المهنة التي أحبتها عاملة خياطة، واستمرت عليها سنوات طويلة وما زالت. اكتفت بأن تكون أمّاً لثلاثة عشر ابناً، وتحوّلت من فتاةٍ حالمة إلى أمٍّ صابرة تضحك رغم الألم، وتسخر من مؤسسة الزواج قائلةً:
"الزواج مقبرة المرأة".
عاشت حياتها مكابدةً وصبراً، ومع ذلك لم تفقد قدرتها على الضحك، كأنّها كانت تعرف أنّ السخرية شكلٌ من أشكال النجاة.
رحل أبي في الثالثة والستين من عمره، كما تموت الأشجار، واقفاً لا راقداً. كان يقول دائماً:
"سأموت وأنا أمشي".
ومات فعلاً وهو في طريقه إلى عمله، الذي لم يتخلَّ عنه يوماً، رغم كل ما أثقله من هموم. لم يقبل مساعدة أحدٍ من أبنائه، كان يرى في الاعتماد على النفس كرامةً لا يُفرّط فيها. وفي أيامه الأخيرة، مدّ ذراعيه وقال مبتسماً:
"أخيراً سأكتب، بعد أن تحرّرت من سجن الحياة".
لكنّه مات قبل أن يكتب شيئاً.
ربما كانت تلك الجملة وصيّته غير المعلنة لنا جميعاً. أن نكتب قبل أن يفوت الوقت، أن نبوح قبل أن نصير صمتاً. فالألم، حين يُصاغ في كلمات، يتحوّل إلى معنى، والمعنى هو الشكل الأسمى للحياة.
إنّ الكتابة ليست فعلاً لغوياً فحسب، بل هي فعل مقاومةٍ للعدم، طريقةٌ نواجه بها الفناء. لقد تعلّمت من أبي وأمي أنّ الإنسان لا يُقاس بما يملك من المال أو الجاه، بل بما يُخلّفه من فكرٍ وحنينٍ وذاكرة. الكتابة كانت، وما تزال، محاولتي لفهم هذا الإرث من الحبّ والألم، من الحرية المقموعة والأحلام الموءودة، من الرغبة في أن نكون شيئاً آخر غير ما أرادوه لنا.
وأدركت أخيراً أنَّ الألم لا يُمحى، لكنه يتحوّل. والكتابة هي طريق هذا التحوّل.
فحين أكتب، لا أدوّن الماضي فقط، بل أستدعي كل ما كان يمكن أن يكون. أكتب لأبي الذي رحل قبل أن يكتب، ولأمي التي ضحّت بأحلامها لتصنع أحلامنا، أكتب لأنَّ الكتابة هي الحياة الثانية التي لم نُتح لها أن تعاش.


