لم تولد العلاقة بين الدوحة وكييف من عدم، هي خيطٌ نسجته حسابات براغماتية دقيقة، قوامها تضامن إنساني معلن، ووعيٌ بأنّ الحرب في أوكرانيا ليست ساحة أوروبية مغلقة، بل أزمة تتقاطع نتائجها مع أسواق الطاقة والأمن الإقليمي ومسالك النفوذ الناعم.
في المقابل، فإنَّ العلاقة بين الدوحة وموسكو تُعدّ أقدم وأعمق، وتتشعب لتطال مصادر طاقة واستثمارات وتنسيقًا ضروريًا داخل أسواق الغاز، وتحفظًا مدروسًا عن الاصطفاف الحاد.
بين العاصمتين، تمارس قطر فنّ السير على الحافة، لا تقطع مع أحد، ولا تمنح أحدًا شيكًا على بياض، وهذا تحديدًا ما يجعل المشاورات التي شهدتها الدوحة خلال شهر آب (أغسطس) الفائت، مع أمين مجلس الأمن القومي الأوكراني رستم أوميروف ورئيس ديوان الرئاسة الأوكرانية أندري يرماك، محطةً كاشفة لطبيعة هذه المقاربة وحدودها.
في تلك المشاورات، بدا الخطاب الأوكراني خاليًا من الزينة الدبلوماسية، إذ ترزح كييف تحت تهديد جديّ بوقف أو خفض كبير للمساعدات العسكرية الغربية المرسلة إليها، ولديها نقص متزايد في الأسلحة والمعدات الأساسية قد يعقّدان التخطيط للهجمات ويضعفان قدرة كييف على صدّ ضربات موسكو على خط التماس.
النتيجة المباشرة كانت البحث عن قنوات بديلة وسريعة وموثوقة لتسليح كييف وفتح خزائن جديدة في منطقة الشرق الأوسط. هنا برزت الحاجة إلى الدوحة، ليس فقط لسجلّ التعاون بينهما، بل لامتلاكها مخزونًا نوعيًا يمكن تدويره بذكاء سياسيّ وقانونيّ.
إذاً، "أوراق الاعتماد" موجودة، وهي أنظمة صواريخ دفاع جوي من نوع "جيرارد"، ومدافع ذاتية الحركة من صنف PZH-2000 التي خرجت من قطر نحو ألمانيا بدعوى الاستبدال بنسخ أحدث، ثم وُجّهت النسخ المستبدلة إلى أوكرانيا في صيف 2023 وخريف 2024، وكل هذا أعطى كييف انطباعات بأنَّ "الباب القطري" قابل للفتح حين يشتدّ الضيق.
فوق ذلك، ثمّة مخزونات من معدات غربية لدى وزارة الدفاع القطرية، وبينها مقاتلات "ميراج 2000" الفرنسية التي أُحيلت إلى التقاعد ويمكن أن تتحوّل، إذا اقتضت الضرورة وأُحسن ترتيبها ماليًا وقانونيًا، إلى رافعة عملياتية مؤثرة على جبهات متعددة. يضاف إلى هذه المعادلة كذلك بعدٌ صناعي يتمثّل باهتمام كييف بالتبضّع من شركة "برزان القابضة"، وهي شركة دفاعية قطرية تنتج الأسلحة بموجب تراخيص أميركية وأوروبية وتركية.
التعاون مع الشركة يمكن أن تُرتّب مدفوعاته وتسليم حمولاته عبر دول في الاتحاد الأوروبي، بما يضمن غطاءً تنظيميًا ويُوزّع المسؤوليات السياسية.
إذاً، حسابات الدوحة تتجه نحو خيار تسليح أوكرانيا، إذ تمضي قطر في فتح قنوات الإمداد لكييف عبر مسارات مالية ولوجستية تمرّ بدولٍ في الاتحاد الأوروبي، لكنّ المضيّ في هذا الأمر قد يناقض خطاب "الحلّ السلمي"، ويُقرأ في موسكو كإسهامٍ في عمليات عسكرية موجّهة ضد روسيا قد تطال آثارُها المدنيين.
وما يزيد كلفة هذا المسار أنّ روسيا بلدٌ ذو كثافة سكانية مسلمة تتجاوز ثلاثين مليونًا؛ أي أنّ التوتر مع موسكو لا يكون مع دولةٍ بعيدة فحسب، بل مع مجتمعٍ يتّسع لمكوّنٍ دينيٍ وازن، بما يفتح بابًا لأصداء حساسة من القوقاز إلى آسيا الوسطى. هنا تصبح العواقب السياسية والأخلاقية ثقيلة: تعاونٌ عسكري يُفاقم هشاشة العلاقة الروسية – القطرية، ويقوّض رصيد الوساطة الذي راكمته الدوحة. وفوق ذلك، يصعب على قطر أن تشكو من استهداف عاصمتها قبل أسابيع ثم تُسهم، ولو عبر مسارات قانونية ملتوية، في ديناميةٍ تُنتج منطق الاستهداف في ساحاتٍ أخرى. الاتساق ليس ترفًا في هذه اللحظة، إنّه شرطٌ لحماية المكانة وصون الجسور مع موسكو، حتى حين تختار الدوحة أن تمدّ كييف بما يلزمها من عتاد.
في الخلاصة، فإنّ ما جرى خلال مشاورات شهر آب (أغسطس) الفائت ليس تفصيلًا عابرًا، بل اختبارٌ لمعادلةٍ قطرية دقيقة: كيف تبقى الدوحة جسرًا وهي طريقٌ لإمداد ساحة حرب في أوكرانيا من دون أن تتأثر علاقتها مع موسكو؟
سؤال قد تجد الدوحة صعوبة في الإجابة عليه!


